تطمينات روسية لأنقرة بإحباط «الدويلة» الكردية: الجيش السوري إلى الباب حسن عليق
فيما يقف الجيش التركي عاجزاً أمام تنظيم «داعش» في مدينة الباب السورية، حشد الجيش السوري قواته، وبدأ هجومه نحوها. تقدّم سريعاً، بصمت، ولم يعد يبتعد عنها سوى 7 كلم. الجنود السوريون يتقدّمون، وكذلك المفاوضات الروسية التركية الإيرانية، وسط تعهّد موسكو لأنقرة بأن تحرير الجيش السوري للمدينة من تنظيم «داعش»، لن يكون بالتعاون مع الأكراد، ولا بالتنسيق معهم
قبل شهرين، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يُرغي ويُزبِد متوعّداً باحتلال مدينة الباب السورية. كانت قواته، والمجموعات السورية التي استقدمها من ريف حلب الغربي ومحافظة إدلب، على مشارف المدينة. كانت على مشارفها، ولا تزال حتى اليوم.
«نزهة» الجيش التركي ومجموعاته السورية من داخل الأراضي التركية إلى ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي، انتهت عند أسوار الباب، المدينة السورية التي تبدو واقعة في «منتصف كل شيء». منتصف الطريق بين حلب ومدينة منبج التي تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية»، وعمادها القوات الكردية، والمدعومة من الولايات المتحدة. ومنتصف الطريق بين «الكانتونين» الكرديين في شمال حلب: كانتون عفرين الممتد شرقاً إلى ما بعد تل رفعت، وكانتون عين العرب الممتد غرباً إلى ما بعد منبج. ومنتصف الطريق الذي اختارته القوات التركية لمحاصرة مدينة الرقة من جهتها الجنوبية. ومنتصف الطريق بين تركيا الواقفة على شفير الحرب مع روسيا، وتركيا الشريكة لروسيا.
كان مبرّر الأتراك لاحتلال اراضٍ سورية مستنداً إلى الوقائع الجغرافية السياسية السابق ذكرها: منع اتصال الكانتونين الكرديين اللذين كانا سيشكلان «دويلة» امر واقع على الحدود السورية ــــ التركية، من الحسكة شرقاً، إلى حدود إدلب غرباً. اما الشمّاعة، فمحاربة الإرهاب. وعندما بدأت قوات أردوغان التوغل في الأراضي السورية (24 آب الماضي)، عبر مدينة جرابلس وبلدة الراعي، لم يواجهها تنظيم «داعش» بأي مقاومة تُذكر. اما قرب الباب، فتغيّرت المعادلة. أوامر زعيم التنظيم الإرهابي كانت واضحة في رسالته التي وجّهها بداية تشرين الثاني الماضي لمسلحيه في الموصل وسوريا: قاتلوا ولا تنسحبوا، واضربوا في تركيا.
حاول الجيش التركي الاقتراب من المدينة في الأسبوع الأخير من تشرين الثاني، فباغتته غارة جوية «مجهولة» في الرابع والعشرين من الشهر نفسه، نفّذها على الأرجح سلاح الجو السوري. بعض وسائل الإعلام التركية اتهمت القوات الإيرانية بتنفيذها. والاتهام مردّه إلى المفاوضات التي كانت تدور في تلك المرحلة بين انقرة وطهران وموسكو ودمشق. حمل الروس إلى القيادة السورية ضمانات بأن دخول الجيش التركي ومسلحيه إلى الباب لن يُستخدم كثقل عسكري ومعنوي للتأثير في مجرى الحرب الدائرة بين الجيش السوري والجماعات الإرهابية في حلب أو في أي مكان آخر. رفضت القيادة السورية هذا الاقتراح، وأصرّت على عدم منح الأتراك «صك البراءة». أيّدت طهران حليفتها دمشق. حاول أردوغان إقناع الإيرانيين بضمانته، شارحاً لهم، عبر مدير استخباراته حقان فيدان ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، اهمية السيطرة على الباب للأمن الإقليمي. لكن الإيرانيين أصروا على موقفهم: الأمر للرئيس السوري بشار الأسد.
لم يحل ذلك دون محاولة أردوغان لعب ورقته الأخيرة. المجموعات السورية التي تسير تحت رايته لم تكن قادرة على التقدّم في ظل إصرار «داعش» على القتال. وبعدما فشلت جبهة النصرة (وحلفاؤها) في السيطرة على الأحياء الغربية لمدينة حلب، وفيما كان الجيش السوري منشغلاً بوضع اللمسات الاخيرة على إخراج المسلحين من الأحياء الشرقية لعاصمة الشمال السوري، نفّذت القوات الخاصة التركية هجوماً على احد محاور مدينة الباب، في ظل تمهيد ناري كثيف من سلاحَي الجو والمدفعية. أحدث الأتراك خرقاً في الحادي والعشرين من كانون الأول 2016، وسيطروا على تلة مهمة، ومواقع محيطة بها. المفاجأة ظهرت في اليوم التالي: هجوم مضاد من «داعش»، أسفر عن قتل 14 جندياً تركياً دفعة واحدة، وأسر آخرين. وبعد يومين، عرض التنظيم الإرهابي صوراً لإحراق جنديين تركيين وهما على قيد الحياة. اوصل التنظيم بهذه الصور رسالة واضحة للمسؤول الأتراك الذين امروا طوال سنوات الحرب بفتح الحدود امام جميع إرهابيي العالم، لينضموا إلى «داعش» واخواتها، وأمام شتى صنوف الأسلحة والذخائر والتجهيزات التي تتيح للتنظيمات الإرهابية مراكمة القوة. تزامن ذلك مع تزايد النشاط الداعشي في تركيا، وصولاً إلى مجزرة رأس السنة في ملهى «لارينا» في اسطنبول. في هذا الوقت، كانت حسابات الولايات المتحدة مركّبة. أولويتها في هذه المنطقة من الشمال السوري، دعم «قوات سوريا الديمقراطية». ولأجل ذلك، لم تقدّم للقوات التركية التي تضع الاكراد هدفاً رئيسياً لها أي دعم جوي ذي تأثير في المجريات الميدانية. ورغم ان الروس حاولوا التعويض، بتنفيذ بعض الغارات على اهداف يقدّمها لهم الأتراك، إلا ان وقائع الميدان أظهرت عدم جدوى الاعتماد على المجموعات المسلحة التي أتى بها الأتراك من ريف حلب وإدلب. لم يستطع المسلّحون السوريون التقدّم. فلم يعد امام أردوغان سوى إدخال قوات كبيرة من جيشه لاقتحام الباب. ودون ذلك عثرات عديدة، أبرزها اثنتان:
1 ــــ أظهر الجيش التركي في سوريا عدم قدرته على إنجاز الكثير، في ما لو واجهته مقاومة جدية. وكان لافتاً التبرير الذي ساقه مؤيدو الاحتلال التركي، عندما تحدّثوا عن الثغر التي خلّفتها محاولة الانقلاب في تركيا، وحملة «التطهير» التي تلتها، على بنية الجيش التركي وأدائه.
2 ــــ لن يكون دخول الباب سهلاً لهذا الجيش الذي يرتكب مجازر في حق المدنيين (قلّما يذكرها الإعلام)، وسيدفع ثمناً كبيراً في أرواح جنوده مما يصعب على القيادة التركية تبريره.
وفي ظل النقاش الدائر بشأن الشراكة الروسية التركية الإيرانية للحل السياسي، كان الجيش السوري قد انهى كل عملياته في مدينة حلب، وبدأ تجهيز قواته على محورين: طريق حلب الباب، وطريق كويرس الباب. هذه القوات يقودها العميد الشهير سهيل الحسن، وتملك قوة نارية هائلة. المفاوضات بين الروس والإيرانيين والأتراك شهدت كلاماً واضحاً عن حالة الاستعصاء التي يواجهها جيش الاحتلال التركي حول المدينة السورية التي تتقاطع عندها حسابات الدول العظمى في العالم والإقليم. مجدداً، مدّ الروس سلّماً لمساعدة أردوغان على النزول عن الشجرة. الجيش السوري بدا بالتقدم في السابع عشر من الشهر الجاري، وبدأ قضم البلدات والمزارع التي يسيطر عليها «داعش». كما انه فتح محور إشغال إضافي للتنظيم جنوبي مطار كويرس. ومنح الروس ضمانات للأتراك، بأن الجيش السوري وحده سيقاتل «داعش» في هذه المنطقة، وصولاً إلى الباب، من دون أي مشاركة للوحدات الكردية، وان اتصال الكانتونين الكرديين لن يتم. وبحسب المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار»، فإن الأتراك وافقوا على العرض الروسي المدعّم بتقدّم ميداني للجيش السوري، الذي صار على بعد 7 كيلومترات عن الباب، من محورين: جنوبي المدينة، وجنوبها الغربي. وعملياً، لم تعد تفصله عن حدود المدينة سوى أربع بلدات رئيسية (دير قاق وطومان وعران وتادف)، وعدد صغير من التلال والمزارع والقرى الصغيرة. ومنذ الرابع والعشرين من الشهر الجاري، بات الجنود السوريون على تماس مباشر مع المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي وميليشياته السورية، جنوب غرب الباب. ففي السابق، كانت الوحدات الكردية تتقدّم في «كوريدور» يفصل بين الاتراك والجيش السوري. هذا التماس يحكمه الهدوء. لكن المعركة ليست هينة امام الجيش. فالقتال الداعشي ضارٍ، تماماً كما قوة التمهيد الناري للقوات المتقدّمة. وقبل يومين، دخلت الوحدات التي يقودها الحسن اطراف بلدتي عران وطومان، لكنها لم تتمكّن من التقدم اكثر، ما دفع الجيش إلى تكثيف تمهيده الناري. وفيما اعلن وزير الدفاع التركي فكري إشيق الاحد الماضي أن جيشه خفض وتيرة عملياته في الباب، مؤكداً في الوقت عينه ان خطته لم تتبدّل، كانت المعارضة السورية التابعة لانقرة تروّج لمعلومات تتحدّث عن قرب «انسحاب داعش من الباب وتسليمها للنظام». وبعض المروّجين يقاتلون مع الأتراك في ريف حلب الشمالي. اللافت في كل ما يجري أنه يتمّ في ظل صمت دمشق وحلفائها. ولا يرتفع صراخ احد سوى الهاتفين بحياة أردوغان.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أمرين: الاول، ان الساحة السورية في السنوات الست الماضية، شهدت تقلّبات متعددة، وتراجعاً تركياً عن الكثير من التعهدات، ما يجعل الحديث منذ الآن عن خواتيم العملية العسكرية محفوفاً بالكثير من الحذر. اما الأمر الثاني، فهو ان التراجع التركي عن عدم دخول الباب، متصل بحسابات سياسية، تُضاف إلى الوقائع الميدانية. ففي واشنطن اليوم، رئيس هو دونالد ترامب الذي يُسرّب محيطون به معلومات عن بحثه في إمكان إدراج «الاخوان المسلمين» على لائحة التنظيمات الإرهابية. ماذا يعني ذلك في سوريا؟ وهل من خيار أمام أردوغان سوى تعميق الشراكة مع موسكو؟
(الاخبار)