القادة الكبار يتركون بصمتهم ويتخطّون أحزابهم الأسد ونصرالله… وعون؟
ناصر قنديل
– من ضمن التغييرات التي أدخلتها ثورة الاتصالات والمعلوماتية والإعلام على صناعة السياسة، تقديم الزعماء للناس مباشرة وتوفير فرص تحوّلهم رموزاً يتخطى إشعاعهم مساحة ـ أثير حركاتهم وأحزابهم وأحياناً بلدانهم، ومن الطبيعي في البدايات أن يرتبك القادة المخلصون لأفكارهم وحركاتهم وأحزابهم أمام هذا التحوّل، ويُصرّون على أنهم يدينون بما هم عليه للأحزاب التي يقودونها ومنحتهم ثقتها، ويعتبرون أحياناً إعلان الولاء لهم وليس لأحزابهم نوعاً من فك الصلة المرفوض والمفخخ بين ثنائي الحزب والقائد، ونفاقاً مبرمجاً لإضعاف الحزب تمهيداً لإضعاف القائد، لكن مع تقادم الحالة وتطورها يكشتفون أنّ الأمر أبعد مدى من حدود مواقف أفراد منافقين يتودّدون ويتقرّبون من مركز قرار لحساب مصالح، بل هو واحد من معايير النجاح والفوز بخدمة القضية التي يؤمنون بها وحزبهم، والتي بدون امتلاك مساحة تأثير تتخطى الحزبية تعجز عن تحقيق النصر.
– في تجربة حزب الله في لبنان والعلاقة بين شعبية الحزب والهالة المعينة لأمينه العام شيء من تاريخ هذه الإشكالية، وفي تجربة الرئيس بشار الأسد وحزب البعث صفحة لا تقلّ أهمية في تاريخ مشابه، والتمييز بين البيعة لقائد من دون حزبه من جهة أو كيل المديح لقائد للذم بحزبه من جهة أخرى، يصير هو الحدّ الفاصل لصدقية الحالة وتوسّع الهالة. فحول السيد نصرالله مريدون لا يتسع لهم حزبه لأسباب عقائدية ومذهبية ودينية ووطنية وقومية، فمنهم من غير دينه وبلده وأمته وبعضهم يراه زعيماً مجدداً لحركة تحرّر عالمية، أو على الأقل لا نقاش في كونه وارث ماو تسي تونغ كزعيم لحركات المقاومة، وفي حال الرئيس الأسد لا نقاش في تقدّمه كزعيم للعروبة المجدّدة، وفي الحالتين لا يرتبط التسليم بالزعامة بتسليم مشابه لزعامة الحزب من دون أن يصدّ القائل أو المؤيد أو المبايع والمتأثر بصدق برمزية القائد وتاريخيته.
– في مراحل لاحقة من التأقلم مع الحالة واليقين بكونها قوة للحزب وليست سبباً لضعفه، بل تأمين حماية واسعة لخياراته في شرائح متزايدة من الرأي العام، يصير نقاش حال الحزب وارداً ونقده بحضور القائد، ويصير الإصغاء والاهتمام بالملاحظات علامة على كون القائد قائداً للحزب ولشعب لا يعرفه كله، لكنه يعرف أنه يتخطى شعبية الحزب، وهو كقائد لكليهما معني بالعدل بينهما، وبالسعي لتوفيق نظرة كلّ منهما للآخر، فلا يكيد الحزب لمحبي ومريدي القائد من خارج الحزب وهم في غالبهم قادة أحزاب سابقون ومناضلون ذوو تاريخ، ولا يصير همّ المريدين النيل من الحزب وتشويهه وإضعافه، والقائد حكم بين الشريحتين وقائد لكليهما، وفي مراحل لاحقة يصير الحزب رصيد للقائد لتحالفات يقيمها بقوة العلاقة بهذه الشرائح التي ترفد زعامته من خارج حزبه، يمنحها مواقع وأدواراً على حساب حزبه وبرضاه. وهذا ما يفعله الرئيس الأسد مع مستقلين سوريين وشخصيات فنية وثقافية وعلمية، وما يفعله السيد نصرالله في تحالفات تستدعي تنازلات نيابية ووزارية من رصيد الحزب.
– يخوض العماد ميشال عون، بعد فوزه برئاسة الجمهورية اللبنانية مساراً يضعه بسرعة في مصاف القادة التاريخيين الكبار، فقد أظهر في محطات متلاحقة قدرة عالية على الثبات والقوة والجرأة في قول وفعل ما يجب أن يُقال ويُفعل، ونجح بصناعة مهابة لمقام الرئاسة كان يفتقدها، وفي مواقفه في رحلته الخليجية وكلامه عن حزب الله، وفي حواراته الإعلامية الأوروبية وكلامه عن سورية والرئيس الأسد، ولكن بصورة خاصة في أدائه المانع لمعادلة الاختيار بين قانون الستين للانتخابات النيابية والتمديد لمجلس النواب اللبناني وصولاً لقوله لا تخيّروني فسأختار الفراغ ما جعل الرئيس العماد يكرّس ثقة وتعلق شرائح واسعة به كقائد بعيداً عن علاقة هذه الشرائح بحزبه. والرئيس دستورياً رئيس لكلّ اللبنانيين وليس لمحازبيه، وللكلّ فيه ومنه قدر متساوٍ، لكن حتى خارج لبنان بدأ الحديث مبكراً عن الرئيس العماد كظاهرة قادرة على ترك بصمة تاريخية، كرمز لبناء الدولة المدنية في الشرق. وهذه رمزية لم يشغلها أحد بعد ومتاح للعماد الرئيس أن يفعل.
– بقدر ما يبدو من حق التيار الوطني الحر أن يناقش قانون الانتخاب أسوة بسائر الأحزاب من موقع حساباته ومصالحه الانتخابية، من ضمن الحرص على مصداقية الاتصال بالمبادئ التي ينتسب إليها، يبدو من واجب الرئيس العماد الابتعاد عن هذه الحسابات والوقوف على مسافة واحدة من الناخبين الذين يحق لهم قانون يمثل أصواتهم من جهة والمشرّعين الساعين لقانون يعيد إنتاج زعاماتهم، وليس لعب دور الحكم بين الحاكمين المشرعين الممسكين بناصية صياغة القانون والذين لا ينكرون أنهم يدافعون عن مصالهم، ليقف الرئيس مدافعاً عن صوت الناخب ومصالحه. وهنا لا بدّ من المصارحة بالقول إنّ كلّ قانون صالح للتمثيل لا يهمل صوتاً لناخب، ويمنحه أوسع فرصة للتأثير، لا يمكن أن يقوم إلا على النسبية والدائرة الأوسع، وفي حال لبنان الدائرة الواحدة، وأول أخطاء أهل النسبية هو حملة التشويه التي أدخلوها على مشروعهم أو ارتضوا إدخالها بداعي البحث عن التسويات والحديث عن الواقعية، فقبلوا نسبية وطائفية وثم نسبية ودوائر صغيرة وصولاً لنسبية على مقعد واحد كمهزلة، وأخيراً نسبي وأكثري في مجلس واحد، ليصير المطلوب من رئيس الجمهورية ردّ النقاش إلى حيث يجب أن يكون، مطالبة مجلس النواب والحكومة بخطة مرحلية لتطبيق المادة 22 من الدستور التي مضى على وجودها ربع قرن ولم تجد مَن يقول متى وكيف تطبّق، وتحدّد وحدها المضمون الإصلاحي للدستور عملياً باعتبار السلطة التشريعية أمَّ السلطات في النظام البرلماني. وبعد ضياع تاريخي في البحث عن قانون انتخابي مناسب تقدّم لنا المادة الدستورية وصفة مناسبة، وإذا القانون المطلوب لا يمكن أن يكون إلا تسوية. وهذا صحيح، تسوية بين النسبي والأكثري، وهذا صحيح، وتسوية بين الطائفي واللاطائفي، وهذا صحيح أيضاً، وتسوية بين الدائرة الكبرى والدائرة الصغرى، وهذا صحيح أيضاً وأيضاً. لكنه تسوية بين الناخبين والمشرّعين قبل كلّ شيء، وتسوية من ضمن الدستور وهذا هو الأهمّ.
– التسوية المنشودة لا تكون دستورية وواقعية ومنصفة للناخبين ومدخلاً للإصلاح، وقابلة للقبول من المشرّعين أصحاب المصالح الانتخابية، إلا إذا انطلقت من أنّ المختلط الوحيد بين عناصر التسوية هو قسمتها بين مجلسين، كما قال الدستور، مجلس لا طائفي ونسبي وفي لبنان دائرة واحدة، ومجلس على أساس طائفي ودوائر صغرى. والتسوية التفاوضية التي تعكس موازين القوى ليست في تلبيس النسبية ثوباً أكثرياً أو العكس، بل في توزيع عدد أعضاء كلّ من المجلسين وصلاحياته، وخطة مرحلية للتدرّج في تعديل العدد والصلاحيات بينهما، فالدستور قال بمجلس لا طائفي له الصلاحيات الأساسية، ومجلس شيوخ يمثل العائلات الروحية بصلاحيات محدودة، ويوحي النص بأنّ المجلس اللاطائفي هو الأوسع عدداً وصلاحيات ومجلس الشيوخ الطائفي هو الأضيق عدداً وصلاحيات. وقد تقتضي التسوية البدء بعدد وصلاحيات معكوستين، فينال المجلس الطائفي العدد والصلاحيات الأوسع وينال المجلس اللاطائفي العدد والصلاحيات الأضيق، وتلحظ الخطة المرحلية تدرّجاً ربما يستمرّ ربع قرن آخر لبلوغ ما سعت إليه المادة 22 من الدستور، لكن خيراً من أن ندخل ربع قرن من الإحباط بقانون نترحّم معه على قانون الستين، يمضي كربع القرن الذي مضى.
– فخامة الرئيس القيادة التاريخية بصمة في الموقف التاريخي وفي الواقعية في صناعة التسويات معاً، وذلك متاح لك، ولك وحدك، فدع حزبك يحارب على جبهته كحزب له مصالح انتخابية، ويتطلع إليك اللبنانيون والتاريخ لتكون الحكم بين مجموع أصحاب المصالح الانتخابية من جهة، والناخبين الذين لا يمثلهم سواك من جهة أخرى.
(البناء)