الهوية والآلية د.بثينة شعبان
على مدى عقود يراقب الوطن العربي نشوء وتطوّر كيان غريب في جسده، يحتلّ الأرض ويقتل البشر والشجر، ويحيك مؤامرات الطائفية والتفتيت ضد كلّ البلدان العربية. وبعد حربين مع هذا الكيان، وبعد اعتداءاته المتكررة على لبنان، وبعد حربه الأخيرة على لبنان عام 2006، وعلى غزة عام 2008، تنشغل معظم وسائل الإعلام العربية بتوصيف جرائم العدوان على أرضنا وشعبنا في فلسطين وفي مختلف أقطارنا العربية، إلا أننا ما زلنا إلى حدّ اليوم نفتقر إلى مراكز أبحاث تتابع هذا الكيان، وتدرس آليات عمله وتحاول فهم الطريقة التي يتبعها في تصوير ذاته وتصوير العرب أمام العالم. إذ ليس من السهل أن يتمكن عدد قليل من ملايين البشر أن يغتصبوا أرضاً ويطرودا شعباً ويستمروا عقوداً في انتهاك المقدسات وتشريد الأبرياء، ومع ذلك، تجد دولاً تقيم علاقاتٍ ودية معهم، وعلاقاتٍ اقتصادية، بينما تتراجع علاقات الأقطار العربية سواء بين بعضها البعض أو بينها وبين دول العالم الأخرى. ولا شك أن قائلاً سيقول طبعاً اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة هو الذي يحكم الولايات المتحدة والعالم. وفي هذا جزء من الحقيقة ولكنها ليست القصة كاملة. إذ كثيرة هي المسائل التي وقف فيها هذا الكيان ضد آراء الولايات المتحدة وآخرها الاتفاق النووي الإيراني وكان هذا الكيان الوحيد في العالم الذي وقف في وجه الولايات المتحدة معترضاً على هذا الاتفاق. والأهم من ذلك هو النظر إلى ما يقوم به هذا الكيان بشأن القضايا العربية والآليات التي يتبعها للترويج لوجهة نظره أمام العالم بينما لا شئ يتمّ القيام به بالمقابل على الساحة العربية. والنظرة الأهم أيضاً يجب أن تُلقى على أساليب هذا الكيان في تربية أجياله وفي الأساليب والمفاهيم التي يزرعها في عقول أبنائه، بينما نجد في المقابل التسيّب الكبير والعمالة والخيانة التي لا يخجل العديد من العرب من ممارستها مع هذا الكيان، وآخرها وليس آخرها زيارة سوريين للكيان وحتى وقوفهم أمام حائط “البراق” في القدس يعتمرون قمّعتي المتدينين وهما عصام زيتون وسيروان كاجو، حسب القناة السابعة الإسرائيلية. بينما آخر ما قام به هذا الكيان هو إرغام مؤسسة الإسكوا، إحدى أهم مؤسسات الأمم المتحدة، بألا تنشر تقريراً موّلته وأشرفت عليه ويعتبر من أهم ما قامت به المؤسسة، بألا تنشره باسمها لأنه يتضمن فصلاً عن فلسطين يُظهر الظلم الذي تمارسه قوات الاحتلال الغاصبة ضد الشعب الفلسطيني وجوهر التمييز العنصري والخرق المتواصل لقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين، وعدم شرعية الاستيطان. وفي مجال التعليق على هذا القرار للإسكوا قال أحد الباحثين إن الكيان الصهيوني يرصد إذا صدر طابع في أي مكان يمكن أن يحمل صورة أو رمزاً يلحق الضرر بهذا الكيان. وفي نظرة لمتابعة هذا الكيان نجد أنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة بخصوص وجوده وهويته إلا ويتابعها في أصقاع الأرض الأربع. والآن وبعيداً عن تصنيف الظالم والمظلوم، أوليس مثيراً للإستغراب أن حفنة من هؤلاء قادرة على متابعة ومواجهة مئات الملايين من العرب داخل بلدانهم وعلى الساحتين الأقليمية والدولية؟ وهنا أبسط ما يمكن أن يفعله بعض العرب المهتمين هو أن تكون لديهم مراكز أبحاث لتدرس الآليات والإجراءات التي يتخذها لتقويض الحقّ العربي من التعليم إلى الدفاع إلى الإعلام إلى العلاقات الدولية إلى وسائل التواصل الإجتماعي ومن ثمّ مواجهة هذه الآليات والإجراءات بما هو أهم منها وأكبر أثراً لأن مواجهتها سيكون سلاحها الحق والحقوق بينما تعتمد آليات المحتل على الأساطير والأكاذيب والأوهام.
وكآخر مثال على ما قام به هذا الكيان هو أنه أنشأ قوات لمحاكاة قوات حزب الله، وستقوم هذه القوات بإجراء سيناريوهات في محاربة جيشه هو كي يتمكنوا في المستقبل من مواجهة أساليب حزب الله في القتال. حين وجد العدوّ تجربة قتالية تفوقت عليه وعلى أساليبه في القتال عكف على دراستها ومحاكاتها من أجل محاولة التفوّق عليها. أوليس من واجبنا نحن ومن أجل الحفاظ على الهوية العربية أن ندرس آليات وأساليب هذا الكيان في تشويه هويتنا وصورتنا أمام العالم من أجل وضع أفضل السبل والسيناريوهات لتقويض أساليب عدوانه، والإرتقاء بأساليب دفاعنا عن حقوقنا وأمتنا ومستقبل شعبنا؟ أي أن نخفّف من التوصيف والشتم ونلجأ إلى الفكر والتحليل والدراسة والإستنتاج بأسلوب علمي وموثق ونجعل هذه الدراسات جزءاً من مناهجنا لتحصين أجيالنا وتنشأتهم النشأة الوطنية السليمة كي يتمكنوا، وفي كلّ المجالات، من الدفاع عن هويتهم وحقوقهم من خلال فهم واستخدام ذات الآليات والأساليب التي ما زالت تستهدفهم منذ عقود. الخطوة الأولى في هذا الطريق هي إنشاء مراكز أبحاث متخصصة، و متطوّرة، والعمل اليوم على نشر تقرير الإسكوا بمختلف اللغات وإنشاء البوابات الالكترونية له إذ المهم أنه صدر، وأن البحث قد تمّ، وسيكون ذا أثر كبير إذا تمت مضاعفة الجهود لإيصاله إلى شعوب الأرض وبلغات عدة.
لقد عمل الجهد الإسرائيلي على سحب الاعتراف الرسمي بهذا التقرير ولذلك فإن الجواب الأنسب هو أن نجعل من هذا التقرير مرجعية دولية من خلال نشره بكل الأساليب وإيصاله إلى معظم البشر.