خطاب التنصيب.. كاذب ومشوه للواقع: سيفر بلوتسكر
“لم يسبق لي أن قلقت بهذا القدر على مصير بلادي”، كتب الصحافي والكتاب توم فريدمان في “نيويورك تايمز″ قبل يومين من مراسم تنصيب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة. والان، بعد المراسم والخطاب، بعد المراسيم الرئاسية التي وقع عليها ترامب لا بد أن قلق فريدمان إرتفع درجة.
في مراسم التنصيب القى ترامب خطابا لا يمكن أن يفهم الا كخطاب فاشي – شعبوي. خطاب مفعم بالاكاذيب، التشويهات، التحريض، القومية المتطرفة وعناصر نموذجية اخرى من هذا النوع من الفكر. فقد وصف ترامب في خطابه القاتم أمريكا كقوة عظمى تغرق وتضعف، تنثر ثرائها بين الاجانب، كدولة كل العالم يمص دمها ويثرى على حساب طبقتها الوسطى. لهذا الوصف، كما لاحظ كل مراجعي الحقائق، لا صلة بالواقع. فبعد ثماني سنوات من رئاسة اوباما وضع الاقتصاد الامريكي جيد، افضل بكثير من وضع الاقتصادات الاوروبية. الاجر الحقيقي يرتفع، الفقر ينخفض والتشغيل يكاد يكون تاما. دين العائلات الامريكية يتقلص، ومستوى معيشة الطبقة الوسطى الدنيا يرتفع بالذات.
في ظل استخدام التعابير المتطرفة، تحدث ترامب عن الجريمة المستشرية عن “المذبحة” في شوارع امريكا وعن عشرات الملايين الذين يتدفقون نحو مؤسسات الرفاه الاجتماعي. الحقيقة معاكسة. فرغم الارتفاع غير المفسر في جريمة العنف في 2015، فان مستواها النسبي اليوم لا يزال الادنى منذ الستينيات من القرن الماضي. فقد تحولت الولايات المتحدة من إحدى الدول الاخطر في العالم الى أكثر أمانا. ومعدل الامريكيين المتعلقين بمؤسسات الاغاثة والرفاه تقلص بأكثر من الثلث، والرأسمال البشري – مستوى التعليم – للسكان السود والهسبانيين تعاظم، إذ بات معظم الشبان ينالون التعليم فوق الثانوي.
صحيح أن الفوارق في المداخيل وفي الممتلكات بين الاغنياء والفقراء بقيت عميقة جدا، ولكن ترامب – الذي هو نفسه صاحب رأسمال كبير وينتمي الى الواحد في المئة الاعلى، والذين عين لحكومته وزراء من الطبقة الاغنى – امتنع عن قصد عن تناول الموضوع. ووجه غضبه ضد اتفاقات التجارة الحرة التي بالحساب الاقتصادي العام أحسنت لامريكا، وضد الطبقة السياسية في واشنطن التي تثرى زعما على حساب “الشعب” – التحريض الشعبوي النموذجي، الذي يدق اسفينا بين الناخبين والمنتخبين بدعوى أن الاخيرين يتعززون والاوائل يضعفون.
تفضلوا رجاء وانظروا الى ثماني سنوات ولاية الرئيس اوباما: هل هو والموظفون الكبار في إدارته تمتعوا بمناعم الحكم في ظل القمع الوحشي للشعب الامريكي؟ هذا تشهير عديم الاساس. مشكوك أنه كان في التاريخ الامريكي إدارة اكثر تواضعا وأكثر انصاتا لاحتياجات “الشعب” من إدارة اوباما. فاصلاحاته الصحية التي بدأ ترامب منذ الان بتصفيتها، منحت تأمينا صحيا زهيدا لعشرات ملايين المواطنين المستضعفين الذين ما كانوا يسمحون لانفسهم حتى بمراجعة الطبيب. وفي هذه الاثناء وقع ترامب أيضا على مرسوم يلغي الدعم الحكومي لقروض السكن للفقراء.
بقعة الضوء الاقتصادية في خطاب ترامب كانت الوعد باستثمارات كبرى في البنى التحتية. شق طرق، ترميم شبكات الكهرباء، المياه والاتصالات، اصلاح الجسور واقامة مطارات حديثة هي امور حيوية بالفعل لامريكا، التي باتت بناها التحتية متخلفة وعتيقة. ولكن الاستخدام المتواتر لعبارة “البنى التحتية” تذكر جدا بأنظمة ظلامية ودكتاتورية، تنفذ مشاريع بنى تحتية استعراضية في ظل ضخ الثراء الوطني للمقاولين المقربين. ومثل هؤلاء لا ينقصون لترامب.
فضلا عن ذلك، فانه عندما يعد ترامب احتفاليا “باعادة الحكم الى الشعب”، فانه يلمح أكثر بانه في إدارة اوباما لم يكن الحكم بيد “الشعب” بل بيد الاقلية. الاقلية السوداء. وعندما يبشر بان من الان فصاعدا مصالح امريكا ستكون في رأس سلم أولويات الرئيس فانه يلمح ايضا بان سلفه خدم المصالح الاجنبية. بأنه لم يكن وطنيا امريكيا بما يكفي. ليس قوميا بما يكفي.
يعتقد الكثيرون بان ترامب انجرف في خطابه نحو الخطابية الخطيرة، ولكن أفعاله كرئيس ستكون معاكسة – متوازنة، مسؤولة، موحدة. في الظروف الشخصية، كما يقولون، ترامب هو إنسان آخر – ودي، منفتح، محب للناس، محترم للاقليات، بعيد جدا عن صورة “الفاشي الحماسي”. يحتمل، فقد سبق لهذه الأمور أن كانت. عندنا أيضا. يكفي أن نذكر التغيير العميق الذي مر به أريئيل شارون كرئيس وزراء. ولكن حتى الان لا يعطي ترامب كرئيس إلا مزيدا من الاسباب للقلق.
يديعوت