«النصرة» و«أحرار الشام»: كرة النار المتدحرجة صهيب عنجريني
مثل كثير من مستجدات المشهد السوري، لا يمكن فصل المواجهات الأخيرة بين «جبهة النصرة» و«حركة أحرار الشام» عن سياقها الزمني. وإذا كانت «أحرار الشام» قد سايرت «النصرة» في عدم الذهاب إلى أستانة، غيرَ أنّ أسباب الصراع بين الطرفين تستند إلى معطيات أشدّ فاعلية تجعله «صراع وجود»
«جبهة النصرة» في مواجهة عسكريّة مفتوحة مع «حركة أحرار الشام الإسلاميّة». لا يبدو الخبر مفاجئاً في مضمونه، لكنّ توقيته يبدو مستغرباً للوهلة الأولى. فالجولة الراهنة من الصراع بين الطرفين تأتي على مسافة أيّام من إعلان «أحرار الشام» عدم ذهابها إلى محادثات أستانة، وتوضيحها بشكل لا مواربة فيه أنّ أحد أسباب هذا الموقف «الوقوف سدّاً أمام عزل فتح الشام (النصرة) ومن رفض المؤتمر».
وخلافاً لما أوحى به موقف «الحركة» من أنّ الطرفين قد يكونان على أعتاب «شهر عسل» جديد، جاءت أحداث الأيّام الثلاثة الماضية لتقدّم دليلاً جديداً على أنّ العلاقة بينهما قد استنفدت كلّ فرص العودة إلى «العصر الذهبي» الذي ودّعته عمليّاً منذ تصفية مؤسّس «أحرار الشام» حسان عبّود (أبو عبد الله الحموي) وقادة الصف الأول فيها قبل أكثر من عامين (أيلول 2014). ويمكن النظر إلى هذا التاريخ بوصفه مفترق طرق بارزاً في مسار الحرب السوريّة، لا سيّما لجهة علاقة المجموعات المسلّحة بعضها ببعض، وعلى وجه الخصوص علاقة «الأحرار» و«النصرة». المجموعتان نشأتا في مرحلة واحدة مستلهمتَين «نهج تنظيم القاعدة»
المجموعتان كانتا قد نشأتا في مرحلة واحدة، مستلهمتَين «نهج تنظيم القاعدة»، وتشاركتا مساراً واحداً مع اختلاف واحد فرضه اضطرار «النصرة» إلى الجهر بارتباطها بـ«القاعدة» إبّان الشقاق الكبير بين زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي وزعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني. لاحقاً، بعد مقتل عبود، دخلت «أحرار الشام» في سلسلة طويلة من الاضطرابات الداخليّة التي أفرزتها صراعات «الأجنحة» التي نشأت بادئ الأمر استناداً إلى الولاءات الإقليميّة، وتمظهرت في ما بعد بشكل أساسي في صورة انقسام إلى جناحين: «قاعدي» يتشاطر و«النصرة» رؤى مشتركة حيال كثير من الملفات (ويخشى في الوقت نفسه من هيمنتها على المشهد)، أما «الجناح» الآخر فيرى مصلحته في القطع نهائيّاً مع «القاعدة» والتماهي مع «منهج» جماعة الإخوان المسلمين (تجدر الإشارة إلى أنّ الأمور داخل «النصرة» أيضاً سارت في مسار مشابه، غير أنّ وجود الجولاني أسهم في ترجيح كفّة «القاعديين»، رغم «فك الارتباط» الظاهري). يمكن القول إنّ بذور «الشقاق» الفعلي كانت قد انغرست في بذرة العلاقة بين الفصيلين منذ كانون الأول 2014 (راجع «الأخبار» العدد 2481)
، وبدأت بالنمو سريعاً بدءاً من آذار 2015 (راجع «الأخبار» العدد 2532). لكنّ عوامل كثيرة أدّت إلى إرجاء «الاحتراب الكبير»، على رأسها «المصالح المشتركة» وحرص الدول الإقليمية الداعمة على تأجيله.
على امتداد العامين الماضيين اندلع كثير من المعارك الموضعيّة بين الطرفين، وسرعان ما كانت جهود «رأب الصدع» تفلح في احتواء المشهد مرحليّاً، من دون العمل على معالجة الأسباب الجوهريّة.
ويبدو طبيعيّاً في ظل هذا الواقع أن تكون كل جولة صراع بينهما أشدّ عنفاً من سابقتها، ورقعتها الجغرافيّة أكثر اتساعاً، لا سيّما في ظل تشاطر الطرفين مناطق نفوذ مشتركة حيناً ومتلاصقة حيناً آخر (في محافظتي إدلب وحماة على وجه الخصوص). كان تشرين الأول 2016 محطّة بارزة في سياق العلاقات بين الطرفين، على خلفية مسارعة «النصرة» إلى احتضان صنوها في التطرف تنظيم «جند الأقصى» الذي دخل في معارك مع «الأحرار» على غير محور («الأخبار»، العدد 3004) ما أضاف إلى عوامل الصراع عاملاً إضافيّاً. وأمام تراكم هذه العوامل، كان الانفجار مرتقباً، حتى ولو كان الفتيل مجرّد حادثة «عابرة» مشابهة لاعتقال «الأحرار» عنصراً من عناصر «النصرة».
وتشير معلومات حصلت عليها «الأخبار» من كواليس «النصرة» إلى أنّ الأخيرة كانت تنظر بعين الريبة إلى «الأحرار» خلال الشهرين الأخيرين، في ظل «وجود مؤشرات كثيرة إلى مسؤولية (أحرار الشام) عن تسريب تفاصيل وإحداثيات شكّلت دعماً كبيراً لبنك أهداف الأطراف المعادية للمجاهدين»، من دون أن يغيّر من الأمر شيئاً «عدم ذهاب الأحرار إلى أستانة». وإذا صحّت هذه المعطيات، فمن شأنها أن تقدم تفسيراً منطقيّاً لتوقيت الحملة التي دشّنتها «النصرة»، كذلك تفرض نوعاً من الربط بين صراع الطرفين وبين الضربة الموجعة التي تلقّتها «فتح الشام/ النصرة» في معسكر «الشيخ سليمان» (ريف حلب الغربي) وأودت بما لا يقل عن ثمانين عنصراً من عناصر «النصرة»، في قصف لـ«طائرات التحالف».
واللافت أن «حركة أحرار الشام» لم تستطع حتى الآن الخروج بموقف معلن من هجمات «النصرة» ضدّها، ما يعكس حقيقة التباينات الحادة التي تشهدها كواليس «الأحرار». وتحول هذه التباينات بين «الحركة» وبين الإقدام على خطوات تصعيديّة قد تعود بانعكاسات سلبيّة تكرّس الانقسام الذي أحدثه تشكيل «جيش الأحرار» قبل شهرين، وتمّ احتواؤه شكليّاً فحسب. ومن المستبعد أن تذهب قيادة «الأحرار» نحو التصعيد من دون دعم من مجموعات أخرى، وهو أمر لا يمكن الحصول عليه إلا بضوء أخضر تركي، لا تبدو أنقرة في وارد منحه قبل انجلاء مشهد «أستانة» وما سيفرزه من تطورات. ويبدو طبيعيّاً الحرص التركي على عدم الذهاب بالخلاف بين أكبر مجموعتين في الساحة نحو اللاعودة في الوقت الراهن، خشية تقديم خدمة مجانيّة لدمشق. وفي المقابل تبدو «النصرة» عازمة على استغلال هذه التعقيدات لتعزيز نفوذها في كثير من مناطق الريف الإدلبي، قبل الاستجابة لجهود «رأب الصدع» التي تقول معلومات «الأخبار» إنها نشطت بشكل فعلي في الساعات الأخيرة. وفي هذا السياق تواصلت أمس المعارك العنيفة في عدد من قرى وبلدات ريف إدلب، وسط «مخاوف» من توسّعها إلى ريف حماة. وخسرت «أحرار الشام» عدداً من مقارّها وتمركزاتها في كل من قميناس وكنصفرة وإبلين، فيما استعادت بعض النقاط في بليون ومشون. وأكدت مصادر من «فتح الشام» لـ«الأخبار» أنّ «الأحرار هم من بغى علينا، ونحن منفتحون على جهود التسوية، شريطة أن تكون منصفةً لنا». ومن المرجّح أن «الإنصاف» المنشود يتضمّن شروط «إذعان» تخطط «النصرة» لفرضها، من بينها تسليم مطلوبين واستعادة أسرى والاحتفاظ بمقار ونقاط سيطرت عليها، وعلى رأسها تلك الموجودة في نقاط حدوديّة أو على مقربة منها.
(الاخبار)