بقلم ناصر قنديل

حوار العراق… بداية السياسة

ناصر قنديل

– عندما ينعقد في العراق مؤتمر تحت عنوان الحوار ويشترك فيه إلى رئيس الجمهورية لمنحه الشرعية البروتوكولية رئيسا الحكومة والمجلس النيابي للخوض في خطاب بلا مجاملات وتشارك المكوّنات السياسية والطائفية للبوح بصوت عالٍ بمكنوناتها وهواجسها، ويحضر ممثلو إقليم كردستان متحدّثين بصراحة عن حق تقرير المصير والانفصال، فهذا يعني أنه حوار في الهواء الطلق وليس تظاهرة إعلامية تحشد للاحتفال بنصر الموصل الذي يوشك على دخول المرحلة الحاسمة، وعندما تُقيّض لك المشاركة في هذا الحوار حاضراً وشاهداً وسائلاً ومحاوراً، فعليك أن تشهد أن العراقيين فاجأوك بأنهم بدأوا بالسياسة، بمعناها العميق بما يتخطّى ضيق أفق إدارة المصالح السلطوية والتنافس على تقاسمها. والشهادة الواجبة أولاً لراعي الحوار نائب رئيس مجلس النواب ورئيس المعهد العراقي لحوار الفكر الشيخ الدكتور همام حمودي، الذي نجح من خارج التداول باسمه كواحد من شخصيات الصف الصانع للسياسة في ما مضى بحجز مقعد متقدّم بين الصنّاع المحترفين.

– في السياسة، الواضح أن كلاً من المشاركين الرئيسيين سجل بمشاركته اهتمامه وعنايته بترك بصمة في إنجاح مشروع التسوية الداخلية المطروحة في التداول، بمحاولة للتوفيق بين ديمقراطية تعتمد التصويت وتنتج وفقاً للديمغرافيا العراقية مخاوف طغيان الشيعة على القرار السياسي والإجرائي، وبالمقابل توافقية لا تشل آلة الدولة وتكبّلها، وتلغي الديمقراطية، لكن لم يغب عن هؤلاء اللاعبين الكبار تسجيل النقاط في صراع كبير يوشك على الانطلاق عنوانه برلمان العراق 2018 الذي سيكون صورة لتوازنات جديدة، ولكنه سيرسم صورة العراق الجديدة.

– السياسة وتسجيل النقاط حاضران، فالواضح من بين سطور كلمة العبادي إعلانه الانتقال من رئيس حكومة الضرورة بطريقة أقرب للوكالة، ليصير لاعباً طامحاً للبقاء في الملعب وبالمنصب ذاته، مشروع رئيس حكومة مقبل بخطاب سياسي قوامه، النجاح في تحرير المحافظات العراقية التي استعادها من يد داعش للسيادة العراقية، ورعايته لقيامة الجيش من نكسة الموصل، وتصويبه على الطائفية السياسية برمزية تستهدف من يراهم منافسين متجذّرين في اللعبة السياسية، وفي مقدمتهم الرئيس السابق للحكومة نور المالكي، ليردّ مناصرون للمالكي بالقول، الحشد الشعبي الذي تولى الإنجاز أبرز من حمى بغداد، وأفسح المجال لإعادة بناء الجيش انطلق قبل الحكومة الجديدة والمالكي كان في مقدمة رعاته. والمشكلة مع العبادي أنه أعاد الأميركيين الذين أخرجهم المالكي من العراق، بينما يوضح السيد عمار الحكيم كرئيس للتحالف الوطني الذي ينتمي إليه المالكي والذي تولى تسمية العبادي، أن النقاط السبع التي عرضها العبادي هي مشروع التحالف، وأن الحشد تشكل بفتوى المرجعية وقرار التحالفز ويدخل على خط الحوار والتجاذب رئيس مجلس النواب سليم الجبوري كممثل أقوى في الساحة السنية ليقول إن تشكيل المشهد العراقي ضمن الأقاليم المتعددة، وحده يضمن التسوية، ويعلن الأكراد بلسان برهم صالح تمسكهم بحق تقرير المصير حتى الانفصال.

– هذه المساحة الواسعة من الاشتباك السياسي تبدو أقرب لتمرين الدخول في السياسة الجدية، بدلاً من أن تبدو مشروع انقسام، فالصراع السياسي الحاد يُخاض هذه المرة بعناية عالية لعدم الوقوع في فخاخ تجعل النصر على داعش ورقة سياسية داخل البيت الشيعي باعتبار الحشد الشعبي استثماراً مشتركاً لا يمكن توزيع أرصدته، أو تجعل هذا النصر مدخلاً لخروج القيادات السنية في موقع المهزوم. فالتجربة علمت الجميع وها هم يجاهرون بما تعلّموه، أن ظهور داعش قال للسنة بأن الإضراب عن السياسة لا يتركهم بمنأى عن مخاطر مَن يستهدف العراق، حتى عندما يجعل عنوانه حرباً مذهبياً، فقد دفع السنة ثمناً غالياً لتمدّد داعش في محافظات أغلبها منهم، وتعلم قادتهم معالجة الخلافات تحت سقف السعي للتوافق، وعدم ربطه بمتغيرات إقليمية تعزز مواقع الدول التي تقدم نفسها كراعٍ لهم، مثل تركيا والسعودية، بات واضحاً عجزها عن تعديل الموازين لصالحها في ضوء حرب سورية، كما هو واضح أنها تتأقلم بحساباتها الخاصة مع المعنيين الإقليميين الآخرين في العراق، وليس بحسابات العراقيين. كما يفصح قادة الشيعة أنهم تعلموا معنى حرمان داعش من البيئة الحاضنة، وأهمية عدم إدارة الظهر لما يجري في الساحة السنية، والاكتفاء بشرعية إمساك السلطة وفقاً لمعادلات الديمقراطية البسيطة، كما يؤكد كل من السيد عمار الحكيم والشيخ همام حمودي في شرح فلسفة التسوية التاريخية، الباحثة عن معادلة توازن الحاجة للتوافق مع الحاجة للديمقراطية، بينما لا يقلق أحداً الكلام الكردي عن حق تقرير مصير، فيجيب عادل عبد المهدي برهم صالح في منصة الحوار ذاته، الكرد لا يريدون الانفصال وظروفه ليست ناضجة، وعندما يحدث العكس لن ينتظر أحد موافقتنا، ومجيء الأكراد لحوار بغداد علامة على أن لا هم يريدون ولا الظروف نضجت، وأن التذكير هو تفاوض سياسي، والجميع جاهز وراغب بهذا التفاوض.

– تتوافر العزيمة وتحضر المصارحة. وهما شرطان أساسيان لكنهما غير كافيين، فالمعادلة الصعبة بين التوافق والديمقراطية يعرف اللبنانيون أنها ليست رغبة فقط، ويراهن العراقيون على تفهّم سعودي وتجاوب مع متطلبات التسوية، كما فعلوا في لبنان، لكن ليست لديهم بعد إشارات كافية بينما تحضر إيران بمستوى تمثيل عالٍ عبر رئيس لجنة الأمن والخارجية في مجلس الشورى علاء الدين بروجردي لتقول إنها تبارك، ويحضر رئيسا لجنة الشؤون الخارجية في البرلمانيين المصري والأردني ليقولا إننا ننتظر، لكن لا يكفي أهل العريس والمدعوين ليكتمل العرس، بينما العروس وأهلها غائبون.

– السؤال الكبير الذي يواجهه الحوار العراقي هو: كيف لا يكون العراق ملعباً، وهو بحجمه وثرواته وموقعه الجغرافي لا يمكن أن يكون خارج الاهتمام، فكي لا يكون ملعباً يجب أن يصير لاعباً. وهذا يعني أن يملك موقعاً واضحاً في الجغرافيا الإقليمية، لا يخشى تحديد بوصلة لأمنه وسط تجاذب بين مفهوم يرى «إسرائيل» مصدر الخطر وآخر يرى الخطر من إيران، ولا يخشى الانخراط في تشكيل ثنائية أمنية واقتصادية مع سورية تفرضها التحديات والمخاطر والمصالح والأدوار، ودون الأولى ارتباك داخلي وتباينات، ودون الثانية خط أحمر أميركي، فهل يقدم العراقيون على خوض المخاطر فيهما؟ أم يسبقهم الأميركي والسعودي بالتأقلم على خط التسويات فتهون التعقيدات؟ أم يسبق داعش الجميع ويضرب ضربته في السعودية؟

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى