اجتماعات واشنطن الفلسطينية- معين الطاهر
لم يدُم التزام الجانب الفلسطيني بعدم تسريب تفاصيل اللقاءات التي عُقدت مع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، ومستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي، سوزان رايس، طويلا. على الرغم من شكوى مُرة تقدّم بها كيري بشأن تسريب محاضر الاجتماعات السابقة، وطلبه أن تصنّف هذه اللقاءات ضمن “سرّي جدًا”. لكن، والحق يقال، حافظ الجانب الفلسطيني على سرية هذه المحاضر إلى ما بعد قرار مجلس الأمن بخصوص الاستيطان. ويبدو أنّ صدور هذا القرار الذي اعتُبر إنجازًا فلسطينيًا قد أغرى بعضهم بتسريب هذه المحاضر، للتنويه بدوره في هذا الإنجاز. وقد يكون هذا (إضافة إلى مصادر أخرى) ما حمل رئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، إلى اتّهام إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بأنّها هي التي طبخت قرار إدانة الاستيطان. وهي النقطة نفسها التي استغلها أمين سر اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، كبير المفاوضين صائب عريقات، عندما أراد نفي صحة التقرير، واعتبر ما فيه “أنصاف حقائق”، مركّزا على أن الغاية من نشر مثل هذا التقرير هو الإيهام بالدور الكبير لإدارة الرئيس أوباما في صياغة قرار إدانة الاستيطان، وهو ما يخدم سياسة نتنياهو، على حد زعمه، إلا أنه لم يبادر إلى نفي أي جزءٍ مما ورد في التقرير، ما يحملنا على الاعتقاد بصحته، وأن نفيه تم لاعتبارات دبلوماسية.
في التقرير الذي أُعدّ عن زيارة الوفد الفلسطيني بتاريخ 12/12/2016، ثمّة حديث عن أربعة لقاءات مع الجانب الأميركي؛ ضمّ الأول والثاني مدير المخابرات الفلسطينية، اللواء ماجد فرج، وكبير المفاوضين، صائب عريقات، مع كل من جون كيري وسوزان رايس كلًا على حدة. أمّا الثالث فكان مع طاقم أميركي سياسي – أمني، ضمّ أربعة نواب لوزير الخارجية ونائب وزير الأمن الداخلي الأميركي، في حين شمل كامل الوفد الفلسطيني من السفير معن عريقات، والدكتور حسام زملط، مستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس والمدير في دائرة الاتفاقات الدولية في الخارجية الفلسطينية، الدكتور ماجد بامية، والدكتور عازم بشارة من دائرة المفاوضات الفلسطينية، ومدير العلاقات الدولية في جهاز المخابرات الفلسطيني، العقيد ناصر عدوي. واقتصر اللقاء الرابع على اللواء ماجد فرج مع مدير الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)، جون بريان.
لم تخلُ هذه اللقاءات من عبارات المجاملة التقليدية، والتهنئة بنجاح مؤتمر فتح السابع والإشادة
بشجاعة الرئيس محمود عباس وخطابه الطويل في المؤتمر، الذي ذكّر جون كيري بخطابات الرئيس الكوبي فيديل كاسترو، مثنيًا على تمسّك عباس بالسلام خياراً استراتيجياً وبثقافة السلام ورفض العنف والإرهاب. أمّا المستشارة رايس، فأشادت بالجهد الجبار الذي تبذله أجهزة الأمن الفلسطينية على صعيد مكافحة الإرهاب، وأكّدت أن الجهات المتخصّصة تعتبر التعاون الفلسطيني الأميركي في هذا المجال أوثق من أيّ تعاون مع أجهزة أمن أخرى في المنطقة، مؤكّدة أهمية استمرار التعاون الأمني الثلاثي الفلسطيني – الأميركي – الإسرائيلي.
ثمّة إشارة لافتة في حديث كيري عن الاستيطان، إذ قال إنّ التوسع الاستيطاني خارج الكتل الكبرى يمثل عقبة حقيقية أمام السلام ويدمّر حلّ الدولتين؛ وفي هذا تمييز واضح بين أنواع مختلفة من الاستيطان. ولم يشر التقرير الفلسطيني إلى أيّ ردة فعل من أعضاء الوفد على هذا الكلام، على الرغم ممّا يمثّله من خطورة. لكن، من الواضح أنّ ثمّة نيّة مسبقة لدى الجانب الأميركي عبّر عنها كيري ورايس في إصدار قرار من مجلس الأمن بإدانة الاستيطان، مع التشديد على أهمية إدراج صياغاتٍ تلتزم بتحقيق الأمن الإسرائيلي، وتعزيز الجهد في مجال مكافحة الإرهاب، من خلال التنسيق الأمني الإسرائيلي الدائم ومن دون أيّ معيقات. وقد اتّفق الطرفان على أن يقوم المندوب الفلسطيني والمندوبة الأميركية في الأمم المتحدة بمراجعة الصياغة والاتفاق عليها، وأوضحا أن ثمّة تعليمات واضحة لدى المندوبة الأميركية للعمل على تمرير القرار. وبذلك يفسّر التقرير ملابساتٍ كثيرة أحاطت بتمرير مشروع القرار، وسبب فشل النظام المصري ونتنياهو في إفشال مشروع القرار.
طرح كيري أيضًا إمكان أن يطرح أفكاراً للحلّ النهائي؛ شريطة أن يدعمه الجانب الفلسطيني في ذلك، مقترحًا على فرج وعريقات لقاءه خلال زيارته إلى السعودية للتباحث معه في هذه الأفكار، إلّا أنّ سوزان رايس سخرت من الفكرة، وقالت إن إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، لن تلتفت إليها. وطلبت رايس أن يحاول الفريق الفلسطيني مقابلة أحدٍ من فريق ترامب، وترتيب ذلك عبر رونالد لاودر، إلا أنّ المحاولة لم تنجح، لانشغال فريق ترامب بترتيبات المرحلة الانتقالية. ولم تُخفِ رايس قلقها من خطورة إدارة ترامب، وأنها تأخذ بجدية ما يقوله عن نقل السفارة إلى القدس، وما قاله بخصوص الاستيطان، متسائلة عن ردة الفعل الفلسطينية إذا ما حدث ذلك.
كانت الإجابة عزم السلطة الفلسطينية، إذا ما تمّ ذلك، على تحديد العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية مع إسرائيل، والانضمام الفوري إلى 16 منظمة دولية كان الرئيس محمود عباس قد تعهّد للرئيس أوباما بعدم الانضمام إليها. وبهذا، يكشف التقرير سبب تلكؤ السلطة الفلسطينية، طوال الفترة الماضية، في الانضمام إلى المنظمات الدولية.
طلب عريقات من كيري أن يدفع باتجاه تضمين التقرير الانتقالي الذي تقدّمه الإدارة الحالية
للإدارة الجديدة أنّ يكون الرئيس عباس والسلطة الفلسطينية شركاء استراتيجيين في مكافحة الإرهاب إقليميًا ودوليًا. وقد طمأنه كيري بأنّ هذا سيكون في مقدمة أولويات التقرير. وشكا عريقات وفرج من تخفيض قيمة المعونة المالية الأميركية من 500 مليون دولار إلى 290 مليون دولار، كما شكا فرج من تقليص المعونة الأمنية من 150 مليون دولار إلى 100 مليون دولار، موضحًا أن هنالك نيّة أميركية لتخفيضها إلى 39 مليون دولار في العام 2017، مؤكدًا على مخاطر تخفيض الدعم المالي المخصّص للأجهزة الأمنية وأثره على قدرة هذه الأجهزة في مكافحة الإرهاب.
في اللقاء الموسّع الذي ضمّ الوفدين، عرض اللواء ماجد فرج نماذج لعمليات التعاون الأمني المثمر، وبُحثت إمكانية إقامة قاعدة معلومات مشتركة، وقد صدر بيان مشترك بصيغة دبلوماسية عن هذا اللقاء. أمّا لقاء فرج مع مدير الاستخبارات الأميركي فلا توجد معلومات تفصيلية بشأنه خارج بحث القضايا الخاصّة بالعلاقة بين الجهازين، وطلب عدم تخفيض المعونة الأمنية، وإن كان قد أُشير إلى وجود تقرير خاص يتضمّن القضايا التي بُحثت.
من الأمور اللافتة الأخرى، طلب كيري تعزيز علاقة السلطة الفلسطينية مع السعودية ومصر. وقد ردّ فرج على ذلك بأنّ العلاقة مع السعودية جيدة، والعقبة أمام توثيقها قيادات سعودية محدّدة، ويجري العمل لتجاوز هذه العقبة عبر اتصالات مع أطراف سعودية أخرى لترتيب زيارة للرئيس عباس. وبشأن العلاقة مع مصر، انتقد اللواء فرج السياسة المصرية الجديدة تجاه قطاع غزة، وتواصل مصر مع أطراف من حركة حماس، وأنّ الرئيس عبد الفتاح السيسي يتعمّد فتح معبر رفح من دون تنسيق مع السلطة الفلسطينية من أجل إيجاد دور لصديقه المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، وأن هنالك ترتيبات لإدخال بضائع عبر مصر إلى قطاع غزة، وهذا سيؤثر على واردات السلطة وإسرائيل الجمركية؛ ذاكرًا أنهم قد تحادثوا مع الجانب الإسرائيلي، ونبههم إلى خطورة هذا الموضوع، مطالبًا بتحرّك أميركي ضاغط لوقف ذلك.
توضح قراءة متأنّية لهذا التقرير الخطير إلى أيّ دركٍ وصلت إليه السلطة الوطنية الفلسطينية، أكان من حيث التواطؤ على حصار قطاع غزة، أم التعهّد بعدم الانضمام إلى المنظمات الدولية، أو التعاون والتنسيق الأمني الذي وصل إلى مستوياتٍ لا سابق لها. وبعد هذا كله، ليس غريباً أن يصل التعنّت الصهيوني إلى المستويات التي وصل إليها، ما دام هناك من هم على استعداد لمكافأة الاحتلال على جرائمه، والتعايش معه ضمن شروطه.