طلال سلمان و«السفير»
ناصر قنديل
– لن يعرف الكثيرون ما كانت تشكّله صحيفة «السفير» في حياتهم وصباحاتهم ويومياتهم وثقافتهم وانفعالاتهم وضحكاتهم ودمعاتهم وغضبهم وفرحهم وحزنهم، حتى يدخل العام 2017 ويعرفون صعوبة المهمة التي تنتظرهم، بأن يعيدوا ترتيب عقولهم وقلوبهم وجملهم العصبية على معادلة الفراغ التي سيصنعها غياب «السفير»، فالأجيال التي تهتمّ للشأن العام وتتعاطاه من مواقعها المختلفة والمتباينة على مساحة العالم العربي وقراء العربية ومتابعيها، من مواليد الثلاثينيات والأربعينيات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، أي سبعة أجيال متعاقبة ستعاقَب بغياب شريك سري كان يرسم أياماً كثيرة إيقاع حياتها.
– أتقن طلال سلمان الصنعة كصنعة بمثل ما فعل الراحل غسان تويني، لكنه ميّز «السفير» عن شقيقتها اللدود بثلاثة، الأولى مساحتها العربية التي افترقت عنها «النهار» عقائدياً وثقافياً ونفسياً، رغم تلاقيها مع الخط الرسمي العربي في السياسة، بينما عبّرت «السفير» عن نبض العروبة رغم علاقتها الشائكة والمتقلّبة والملتبسة في كثير من الأحيان مع الكثير من الأنظمة التي حالفتها أو خالفتها، لكنها فازت برهان أن تبقى نبض العروبة، والثانية شعبيتها، أيّ انتماؤها للفقراء والمساكين والمعذبين والمنتجين والمظلومين والمستضعفين، ليس بقوة هوية طبقية أو إنسانية، بل بهوية بيضاء بلا تعريف أحسّها كلّ منهم كما أحسّها كلّ مَن أراد توصيف أو تصنيف «السفير»، والثالثة خيار مقاوم لمشروع غربي يدلل «إسرائيل» ويبرّر عدوانها، وتنتصر «السفير» لمقاومته، وتشكل روح هذه المقاومة الثقافية، حتى لو جنحت في السياسة لمخاصمة قوى تتخندق على ضفاف المقاومة وخلف متاريسها، لاعتبارات منصفة أو مجحفة، لكنها بقيت حتى لمن تخالفهم ويشعرون بمظلومية، لا تراودهم فكرة العداوة، بل يردّدون أنّ «ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسم المهنّد»، فهي «السفير» ويكفي.
– «السفير» قدّمت للغة العربية، وللقومية العربية، وللمقاومة العربية، وللحداثة العربية، وللديمقراطية العربية، وللمرأة وقضيتها، والحرية وقضيتها، والعدالة وقضيتها، ما يفيض عمّا يمكن أن تقدّمه دول وأحزاب، والكلّ منهم كان يريدها له كلها، ولا يرضى بنصيبه منها فيغضب، لكنها كانت لكلّ هؤلاء من دون أن تكون لأحد منهم، حتى صاحبها وناشرها ومؤسّسها ورئيس تحريرها طلال سلمان، عصت عليه «السفير» ولم تكن له، بل طوّعته وجعلته لها، فمَن يعرف طلال سلمان، ولا يشمّ رائحة حبر «السفير» عندما يراه أو يصافح يده، أو يسمع صوته أو اسمه، أو يوافقه رأياً أو يخالفه موقفاً، في لحظة التفاهم مع طلال سلمان يقول المرء في سره عساه يتذكرها في «السفير»، وفي لحظة الخصام يقول المرء في سره عساه ينساها في «السفير»، فمن تزوّجته تزوّجت «السفير» معه، ومَن أحبّه أحبّ «السفير» معه، لكن صعب على مَن خاصمه أو غضب منه أن يخاصم «السفير» ويغضب منها، بمن فيهم أبناؤه يشعرون أنهم خلافاً للناس أبناء لثلاثة، الوالد والوالدة و«السفير».
– خرّجت «السفير» ودرّبت وعلّمت أجيالاً في الصحافة والسياسة والمؤسسات الأهلية وكلّ ما يتصل بالشأن العام، فكانت جامعة قائمة بذاتها، وليس لذاتها، فكثير ممن تعلّموا من «السفير» عن بُعد لا تعرفهم، ولا يعرفون مكاتبها وأشخاص العاملين فيها، وصاروا قادة ووزراء وسفراء ورؤساء، وفي زمن الجامعات الافتراضية الفاعلة والمنتشرة على مساحة العالم، كسمة للعصر المقبل، وجب القول إنّ «السفير» كانت الجامعة الافتراضية الأولى في العالم العربي للتدرّب على ممارسة الشأن العام، من دون رسم انتساب سوى كلفة شراء نسخة يومية من أعدادها، الرفيعة الذوق، المرهفة الألوان، ويكفي أن نتذكر أستاذين كبيرين في هذه الجامعة، من الذين عشنا معهم أحلى الأيام والذكريات، في جامعة «السفير»، ناجي العلي وجوزف سماحة.
– قد يشكّ طلال سلمان في انطباق ما يقرأه عن نفسه على قياس ما يعرفها، ويراه مجاملة تفيض عن حدود الواقع، لكنه عن بُعد وعبر «السفير» ليس إلا قائد نهضة عربية معاصرة بامتياز نصف قرن من النضال لم يكلّ ولم يملّ، وأستاذ مؤسّس في عصرنة حياتنا السياسية وتهذيب لغتنا وتعميم نبض المقاومة فينا، نشتاق لكلماته في الملمّات، وإن ننسَ فلا ننسى ونحن نقاتل على أطراف وتخوم عاصمتنا الجميلة بيروت، كلماته في «السفير»، وعنوانها في ذلك اليوم العصيب، «بيروت تستشهد ولا ترفع الرايات البيضاء»، ولا ننسى تلك الملفات الناضحة حباً بالضاحية وهي تقاوم، ولا الشامة التي زيّنت خدّه وهو يصرخ بوجه الخيانة والطغيان، بلا مواربة.
– من المعيب أن نقول وداعاً لـ «السفير» أو لطلال سلمان، ومن النفاق أن نقول إلى اللقاء، نقول عهدنا لطلال و«السفير»: إننا نحبهما معاً وسنفتقدهما معاً كلّ صباح.
– أطال الله بعمر الأستاذ طلال وغَمَرَه بوافر الصحة.