مقالات مختارة

مدينة الباب السورية: غرق المحتلّ… وقبر الغرور التركي …العميد د. أمين محمد حطيط

 

كانت صادمة للبعض الاستغاثة التركية بالقوات الجوية للتحالف الأميركي الذي يزعم أنه أنشئ لمحاربة داعش. وتعاظمت الصدمة عندما خرج أردوغان متهماً أميركا بأنها تساند داعش والإرهاب تحت عنوان آخر، وانّ ادّعاءها بمحاربته يجافي الحقيقة قائلاً وبكلّ «فصاحة» «إنّ لديه أدلة ثابتة بأنّ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة «يقدّم الدعم لمنظمات إرهابية في سورية، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية داعش والحزب الديموقراطي الكردي». فلماذا قال أردوغان الآن هذه «الحقيقة» رغم أنه على جفاء معتاد مع الوفاء وقول الحقائق منذ اليوم الأول الذي انقلب فيه على التفاهم الاستراتيجي مع سورية وجعل تركيا قاعدة أساسية لانطلاق العدوان عليها وأساساً مركزياً للحرب الكونية التي شنّت على الشعب السوري بكلّ وحشية؟

للإجابة على هذا التساؤل نرى أنه من الضروري الوقوف على الموقع التركي الحالي في المشهد السوري وهو موقع يكاد يكون مختلفاً جذرياً عما كان يحلم به أردوغان عند غدره بسورية قبل ست سنوات ممنّياً النفس بوضع اليد عليها عبر «التنظيم العالمي للإخوان المسلمين» الذي يشكل أردوغان وحزبه الحاكم جزءاً منه، ولكن الطموح هذا دُفن في حلب وذهبت أحلام السلطان الوهمية أدراج الرياح. وهنا نجد أنّ أردوغان وما أن استشعر بالخطر ورأى الجيش العربي السوري يشرع بحفر قبر أحلامه في حلب بعد أن أحكم الجيش الحصار عليها في آب الماضي، حتى اضطرب وتحوّل للبحث عن مسارب نجاة وإنقاذ، ولذلك وتحت شعار الدفاع عن وحدة تركيا تحوّل الى اعتماد استراتيجية دفاعية أرساها على نظرية الهجوم في معرض الدفاع وأنشأ قوى عسكرية عمودها الفقري من الجيش التركي وطعّمها ببعض المأجورين العملاء من الذين يعملون تحت عنوان «جيش سوري حر»، وغزا الأرض السورية بعملية عسكرية أسماها «درع الفرات» تيمناً بـ «درع الصحراء» الأميركية ضدّ العراق.

لقد ظنّ أردوغان أنّ علاقته الحميمية الرعائية لداعش معطوفة على هيبة يدّعيها لجيشه، ستمكّنه من اجتياح المساحة التي تناسب مصالحه الأمنية في سورية من غير الحاجة الى قتال جدّي، وبالفعل كانت بداية الطريق في جرابلس، حيث تمّت الأمور وفقاً لما خطط أردوغان وجرت عملية تسليم وتسلّم المدينة بين الجيش التركي المموّه ببعض جماعات المسمّى «جيش سوري حر» وبين داعش التي انكفأت من المدينة إلى مدينتي منبج والباب. فارتاح أردوغان للنتيجة وتشجّع للمتابعة. خاصة انّ «قسد» التي ترعب أردوغان بمشروعها التقسيمي المؤيَّد أميركياً كانت قد أضحت على قاب قوسين او أدنى من إنهاء معركة منبج وإخراج داعش منها مع احتمال توجهها – أي قسد – إلى الباب غرباً.

لقد اتجهت قوات «درع الفرات» التركية الى الباب من أجل أن تقطع الطريق على «قسد»، ومن أجل أن تكون على المشارف الشرقية لحلب، والأهمّ من أجل توسيع دائرة احتلالها ونفوذها داخل سورية في سياق تنفيذ مشروعها القديم بإقامة المنطقة الآمنة على الأراضي السورية. وبالتالي أضحت الباب هدفاً ميدانياً يخدم أهدافاً استراتيجية كبرى ترى تركيا أنّ التفريط بها يؤدّي بالأمن القومي والدور التركي الى مواقع في غاية الخطورة والسلبية.

أما على صعيد الفرقاء الآخرين في الميدان، فقد كان جلياً وواضحاً انّ الحكومة السورية ترفض رفضاً قاطعاً الدخول التركي العسكري الى أراضيها وتعتبره احتلالاً وانتهاكاً للسيادة، كما أنّ «قسد» تعتبره عملاً عدائياً ضدّها. وهنا كان موقف التحالف الأميركي واضحاً في دعم «قسد» ورفض الاشتراك مع التركي في معركة الباب كما رفض تقديم أي مساعدة له فيها، اما داعش التي شعرت بالخطر الميداني عليها وبتآكل مناطق سيطرتها في كلّ من العراق وسورية على حدّ سواء فرأت في معركة الباب ميداناً رئيسياً للدفاع وللضغط على تركيا في الآن نفسه، لأنها لم تتقبّل بسهولة فكرة انقلاب تركيا عليها أو الاستغلال التركي لها، فقرّرت المواجهة الشرسة ضدّ قوات درع الفرات التركية، وعلى هذا رسمت خطوط المعركة وإطارها.

ومع الصدمة الأولى كانت الكارثة تنزل بالقوات التركية التي رغم ما مارسته من تعتيم إعلامي الى الحدّ الأقصى، ورغم ما قامت به القنوات التي تعمل بسياسة الإخوان المسلمين وفي خدمتهم ومارست من تضليل إعلامي، كان «جبل عقيل» السوري وما دار عليه من كرّ وفرّ وما تبعه من المواجهات كفيلاً ليفضح العجز التركي وانهيار المعنويات لدى الجيش التركي لدرجة إقدام قادة ميدانيين على تقديم استقالاتهم من الجيش في سلوك ينبئ بحجم الانهيار المعنوي في الصفوف التركية معطوفاً على حجم هائل من الخسائر البشرية تعدّت الـ 350 إصابة بين قتيل وجريح.

وهكذا وجدت تركيا أنّ منشارها العدواني علق في عقدة الباب في مواجهة مع الإرهاب الذي رعته وسلّحته واعتمدت عليه للاستيلاء على سورية، ثم وجدت نفسها شبه وحيدة في الميدان في ظلّ إحجام الفرقاء العاملين فيه في محيط الباب عن تقديم العون لها، فلا الجيش العربي السوري بوارد أن يقدّم المساعدة لمحتلّ ولا «قسد» بوارد أن تنسق مع تركيا التي ما جاءت الى سورية إلا من أجل مواجهتها، كما تعلن، ولا أميركا في وضع يتيح لها مساعدة الأتراك في مشروعهم الذي لا يتطابق مع المشروع الأميركي عبر الأكراد.

والأخطر من كلّ ما تقدّم أنّ تركيا كانت بحاجة لإنتاج صورة قوة لها في الإقليم من أجل حجز المقعد الذي يلائم طموحاتها السلطانية، فوجدت نفسها في سورية تغرق وتهشم ولا أحد يمدّ لها حبل نجاة ثم تتفاقم العناصر السلبية ضدّها في سورية وتتراكم مع ما آل اليه وضعها في العراق رفض وجودها فيه بكلّ صراحة ووضوح.

ومع هذا، ورغم أننا لا نستبعد بشكل كلي مطلق أن تتوصّل تركيا الى وضع اليد على الباب، إذا قرّرت أن تتحمّل الكلفة الباهظة من أجل هيبتها، كما تدّعي، لكن حتى ولو نجحت في ذلك، وهو أمر غير يقيني حتى الآن، وغير قابل للاستقرار في ظلّ قرار سوري بتحرير الباب، فإنّ الأضرار العسكرية والاستراتيجية التي نزلت بتركيا لن تكون من الطبيعة القابلة للمعالجة والإصلاح السريع أو القريب، ثم أنّ هناك أمراً آخر لا بدّ من التفكير فيه وهو انعكاس تمرّغ الهيبة التركية العسكرية على الهيبة الأطلسية، خاصة أنّ هذا الحلف يعتمد في قدراته العسكرية على جيشين الأول هو الأميركي والثاني هو التركي، أما الباقي فهم جزئيات لإكمال الصورة، فإذا تهشّمت صورة الجيش التركي في الميدان السوري، فإنّ الضرر سيلحق بشكل مرتد على الحلف الأطلسي ذاته أيضاً.

أما على الصعيد السياسي، فقد ترى تركيا أنّ إمساكها بالباب يستحقّ التضحيات مهما بلغت من أجل حجز مقعد مميّز لها في الحلّ السوري، لكننا نرى أنّ هذا الظنّ لن يكون في محله العملي خاصة أنّ أحداً لن يحول دون الجيش العربي السوري واستعادته للباب أولاً، ثم أنّ محور المقاومة الذي سورية قلعته الوسطى لن يفرّط بأيّ حق أو مكسب او مصلحة في سورية بعد أن استشعر الانتصار الأكيد في الحرب الكونية التي شنّت عليه، على حدّ ما أعلنه السيد حسن نصرالله منذ يومين.

وبالنتيجة، نرى تركيا في حصادها الإقليمي في الحريق العربي لن تكون بأفضل حال من السعودية في هذا الحصاد، وكلتا الدولتين شاءت شيئاً فوصلت الى عكسه، وكما أنّ اليمن شكلت مقبرة الأطماع والأحلام السعودية، فإنّ الشمال السوري شكل تلك المقبرة لتركيا، فإذا كان في حلب حُفر قبر الأحلام السلطانية ففي الباب تحطّمت الهيبة وحفر قبر الغرور والعنجهية الأردوغانية العثمانية وعلى الباغي تدور الدوائر. ومن أساء التقدير وأعماه الغرور فعليه أن يدفع الثمن.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى