كلام كيري ليس سخيفاً
ناصر قنديل
– غضبان متوازيان يلاقيان الوثيقة السياسية التي أدلى بها وزير الخارجية الأميركي جون كيري حول القضية الفلسطينية والتسوية الفلسطينية ـ «الإسرائيلية» من منبر وزارته قبل مغادرتها بثلاثة أسابيع. الغضب الأول «إسرائيلي» يصيب جوهر موقف كيري مستكملاً الغضب على ما سبقه من عدم استعمال الفيتو لإسقاط قرار مجلس الأمن الذين يدين الاستيطان، والذي تقول وثيقة كيري اليوم، كما طريقة عرض المشروع على التصويت، إن التصويت الذي سحبته مصر من التداول تمّ برضا أميركي عبر تبنيه من دول أخرى بينها أصدقاء لأميركا. والغضب الثاني عربي وفلسطيني ينطلق من توقيت الكلام باعتباره ينم عن فهم عميق للأزمة التي تعانيها مشاريع التسوية ومفاوضاتها المتعثرة، ويشير إلى امتلاك مخارج واقعية وممكنة لها، والغضب هنا بسبب التكتم عليها والعمل بعكسها لسنوات طوال، ثم الإفراج عنها دفعة واحدة في وقت يفقدها قيمتها، فلم يبق ما يكفي لترجمتها عملياً، والإدارة الجديدة تعاكس التطلعات التي عبّرت عنها الوثيقة علناً .
– الشيئان الأكيدان، أن كلام كيري ليس شخصياً، وليس لأي وزير بمكانة ومكان كيري استعمال منبر وزارته الحساسة ليقول كلاماً شخصياً، خصوصاً ما يتعلق بـ«إسرائيل»، والتصويت في مجلس الأمن على كل حال يقول العكس، وليس من مصلحة وزير يغادر الحكم بعد أيام أن يشتري عداوات بسبب سياسات لن يعود بمقدوره حتى الدفاع عنها، فكيف بما يخصّ «إسرائيل» وفي أميركا، وما يحمله إغضاب «إسرائيل» من مخاطرة، أما الشيء الثاني فهو أنه لا يكفي هنا أيضاً أن نقتنع بأن كلام كيري تعبير عن موقف إدارة أوباما، فالسؤال يبقى لماذا المخاطرة بشراء عداوة «إسرائيل» من قبل أوباما، إذا كانت الإدارة المقبلة ستنسف المسارات التي ترسمها هذه المواقف وتسلك سياسات معاكسة، ولا يبقى لصاحب الموقف إلا سواد الوجه؟
– تكفي العودة للذاكرة القريبة للمشهد في الشرق الأوسط الذي جمع «إسرائيل» وأميركا على وسادة واحدة مع تركيا والسعودية لخوض أشرس الحروب لاقتلاع الدولة السورية وتفكيكها وإعادة صياغتها وتقاسم غنائم السيطرة عليها، وترتب عليه إخفاء كيري لما يعلمه لست سنوات هي عمر الحرب، منذ أن تحدثت هيلاري كلينتون يوم كانت وزيرة خارجية أميركا في آذار 2010 أمام منظمة الآيباك الصهيونية عن مستقبل قاتم ينتظر «إسرائيل» ما لم تقدم على خيار دراماتيكي لصناعة السلام. ستقول العودة للمشهد ولكلام كلينتون وكلام كيري شيئاً واحداً وهو أن الفشل في الحرب في سورية، التي لم تبخل عليها أطرافها بكل ما يلزم للفوز بها، ولتخطي مخاطر السير بوصفة كلينتون، في وثيقة مشابهة أعدّتها دوائر الدبلوماسية الأميركية يومذاك، وتلتها صديقة موثوقة من «إسرائيل» هي كلينتون، لكنها قالت بمأساوية إن الدولة اليهودية والدولة الديمقراطية، اللتين قال كيري إنه يستحيل الجمع بينهما داعياً «إسرائيل» للاختيار، ستسقطان معاً ما لم تسارع «إسرائيل» لسلام عاجل يرضاه الفلسطينيون والعرب.
– مع سقوط خيار الحرب على سورية، بسبب المواجهة الضارية التي خاضتها سورية ووقفة حلفائها معها، عادت الأمور إلى حيث كانت، ولأن البديل الوحيد لفرض الإرادة الأميركية ـــ «الإسرائيلية» بالتعاون مع تركيا والسعودية قد فشل، عادت منذ سنتين لغة البحث عن التسويات الممكنة، وكان التفاهم على الملف النووي الإيراني وليدها الأهم، وتلاه التفاهم الروسي الأميركي حول سورية. فهل كان ذلك ممكناً من دون سلة شرق أوسطية، في قلبها سعي أميركي لحماية «إسرائيل» من خطر حرب مقبلة حكماً، ما لم تسبقها تسوية ممكنة وترتضيها موسكو، وتوفر على أساسها ضمانات عدم اندلاع حرب تعرف أميركا و»إسرائيل» أنها ستطرح مصير «إسرائيل» وجودياً، وهل يمكن النظر لكلام كيري بغير إفراغ جعبة الدبلوماسية الأميركية من ودائع التفاهم مع موسكو، ووضعها في التداول وفقاً لما تم التفاهم عليه، من موقع مسؤولية ومصلحة أميركيتين، وليس لترف التميّز عند وزير يغادر المسؤولية؟
– بالعودة إلى الذاكرة الأبعد، نقع على توصيات بايكر هاملتون قبل عشر سنوات تماماً، حيث وضعت وصفات للاستراتيجيات الأميركية هي التي تبصر النور تباعاً، منذ فشل وصفة الحرب على سورية كبديل لهذه التوصيات، ففي التوصيات دعوة للتفاهم مع روسيا، ودعوة للاعتراف بإيران قوة نووية ودولة إقليمية فاعلة وقادرة، ودعوة للانخراط مع سورية في تفاهمات حول الصراع مع «إسرائيل» وحول لبنان. ولكن أهم ما في التوصيات دعوة لحل القضية الفلسطينية وفقاً لحل الدولتين، والضغط على «إسرائيل» التي فشلت في خوض حروب رابحة، وخصوصاً حربها عام 2006 على حزب الله، للانسحاب من الأراضي المحتلة العام 67، وإقامة دولة فلسطينية، وحل مقبول للقدس واللاجئين وفقاً للقرارات الدولية، والانسحاب من الجولان ومزارع شبعا اللبنانية، وها هي توصيات بايكر الجمهوري وهاملتون الديمقراطي، ومعهما مسؤولون كبار في الحزبين، تُعلن على لسان كيري.
– كيري يضع رأس جسر لما سيكون عنوان التفاوض اللاحق، الذي سيجد الرئيس المنتخب دونالد ترامب، أن سلوكه نحو موسكو كما يرغب مستحيل من دون سلة تطال رؤية مشتركة حول الشرق الأوسط، لا تملك واشنطن فرص تعديل التوازن الذي يحكمها تجاه إيران، ولا الفرصة لحماية العنتريات «الإسرائيلية» فيها بعنتريات أميركية مماثلة تعوزهما موازين القوى، عندما يصل الاحتباس المقبل حول تسوية القضية الفلسطينية ومع تعافي سورية وتعاظم قوة إيران وحزب الله، إلى انفجار عسكري، مفاجئ أو محسوب، يصير خلاله مصير «إسرائيل» قيد البحث، ولا تملك موسكو فرصة التدخل ولا تقديم الضمانات لأمن «إسرائيل» إلا إن أمسكها ترامب بيدها وأخذ بها إلى حيث قال كيري.
(البناء)