بعد قرار مجلس الأمن رفض الاستيطان- معين الطاهر
مضت ستة وثلاثون عامًا على آخر التفاتةٍ لمجلس الأمن تجاه الاستيطان الصهيوني في المناطق العربية المحتلة منذ حرب يونيو/ حزيران 1967، تغوّل فيها الاستيطان خلايا سرطانية تلتهم كل يوم أرضًا جديدة، وتقسّم الضفة الغربية إلى أشلاء متناثرة، حتى زاد عدد المستوطنين فيها على 750 ألفاً، ويُتوقّع، بحسب المخططات الصهيونية، أن يتجاوز المليون في سنة 2020.
في هذه المرة، سمحت الولايات المتحدة الأميركية، لاعتبارات متعدّدة، بتمرير القرار عبر امتناعها عن التصويت، بعد أن كانت قد استخدمت حق النقض (الفيتو) مرارًا وتكرارًا ضدّ الحقوق الفلسطينية المشروعة، فمن أصل 79 مرة استخدمت فيها الولايات المتحدة حق النقض منذ تأسيس (إسرائيل)، فإنّ 71 مرة كانت ضدّ إدانة إسرائيل واعتداءاتها على العرب أو الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
جاءت ردة الفعل الصهيونية عنيفة، إذ اعتبرت القرار غير مُلزم، ولن يغيّر شيئًا على الأرض، ووصفة نتنياهو بأنّه قرار حقير وسخيف، وبادر إلى استدعاء سفيريه من نيوزلندا والسنغال. وصرّح وزراء صهاينة إنّ الولايات المتحدة قد تخلّت، في سماحها للقرار بالمرور، عن حليفها الوحيد في الشرق الأوسط. وباختصار، ساد الإحباط، بعد فشل جهود نتنياهو والرئيسين الأميركي المنتخب دونالد ترامب والمصري عبد الفتاح السيسي عرقلة القرار، نتيجة المبادرة الشجاعة من نيوزيلندا والسنغال وماليزيا وفنزويلا، بدعم عربي وفلسطيني لإعادة مشروع القرار إلى أروقة مجلس الأمن بعد التخلي المؤسف والمخجل للنظام المصري عنه.
لافتٌ للنظر ما صرّح به الناطق باسم البيت الأبيض إنّه “لم يكن في وسعنا التصويت ضدّ القرار والاحتفاظ بضميرنا حيًا في الوقت نفسه”، مبررًا هذا التصويت بأنّه جاء بعد استنفاد الوسائل كلها لوقف الاستيطان، وأنّه لحماية إسرائيل من نفسها، إذ إنّ سياسة بناء المستوطنات “تُقوّض بشكل خطير أمن إسرائيل”. وهو يتوافق مع ما صرّحت به المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة بعد التصويت إنّ الولايات المتحدة تُرسل الرسائل سرًا وعلنًا منذ خمسة عقود لوقف الاستيطان، من دون أن تلقى آذانًا صاغية.
سينعكس هذا الموقف الأميركي المستجدّ، والمتوافق مع الإجماع الدولي، على موقف الإدارة الأميركية الجديدة بشكل أو بآخر، إذ بعيدًا عن تصريحات ترامب المؤيدة بشكل مطلق للكيان الصهيوني وسياساته الاستيطانية، وعن تغريدته بعد صدور قرار مجلس الأمن، وحاول فيها أن يواسي الإسرائليين بأنّ الحال لن يبقى كما هو بعد 20 الشهر المقبل (موعد استلامه الرئاسة)، إلّا أنّ هذا القرار والموقف الأميركي الحالي منه سيُشكّل عاملاً كابحاً، ولو بشكل نسبي، لسياسات ترامب، ويمكن لموقف عربي يحظى بإجماع دولي أن يُعرقل بشكلٍ فعالٍ سياسات ترامب المؤيدة للكيان الصهيوني، وخصوصًا نيّته نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس.
يمكن أيضًا لهذا القرار إذا أُحسن التعامل معه أن يكون له أثر كبير على حركة مقاطعة إسرائيل ومنتجاتها في العالم، وتحديدًا بضائع المستوطنات، كما يمكن أن يُشكّل رافعةً لإعادة بناء حالة تضامن واسعة وكبيرة مع الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة على المستوى الدولي.
خسر النظام المصري ما تبقّى له من مصداقية بعد الصفقة التي أبرمها السيسي مع ترامب ونتنياهو لسحب مشروع القرار من مجلس الأمن، وأصبح معزولاً على مستوى الجمهور العربي، وثمّة شكٌ كبيرٌ في قدرته على الاهتمام بالقضايا العربية. لكن، لا بد من التفريق تمامًا بين أفعال النظام المصري المستهجنة وشعب مصر العظيم، ولا بد من الحذر من استغلال أبواق هذا النظام للنقد والاستنكار الذي قوبل به قرار السيسي بسحب مشروع القرار، لتبرير مزيد من سياسات التطبيع مع الصهاينة، أو إثارة النعرات القُطرية الضيقة، مدركين تمام الإدراك أنّ الوضع العربي لن يستقيم، ما لم تعُد مصر إلى صدارة الأمة العربية، ولعلّ في اللقاء الثلاثي الروسي التركي الإيراني الذي عقد في موسكو لترتيب الوضع السوري، في غياب أي طرف عربي مؤشر، كافٍ للحال الذي وصلت إليه الأمة.
أثبت التصويت على القرار في مجلس الأمن أنّ ما قاله الرئيس محمود عباس في خطابه الطويل أمام مؤتمر “فتح” حول المناخ الدولي غير الملائم للتحرّك غير صحيح، وأنّ القضية الفلسطينية ما زالت محافظة على مكانتها، وإن اعترى هذه المكانة بعض القصور، فهو بفعل تصرفات القائمين عليها وتنازلاتهم ومساوماتهم القائمين عليها. من ناحية أخرى، حقق الرئيس عباس، ولو بشكل غير مباشر، نقاطًا واضحة أمام خصومه، وخصوصًا محمد دحلان، وعزّز رأيه القائل بمقاومة التدخّل في الشأن الفلسطيني من “الرباعية العربية”، وتحديدًا مصر والإمارات، إذ سيزداد موقف النظام المصري في الساحة الفلسطينية بلا شكٍ ضعفًا بعد الموقف المخزي في مجلس الأمن، وهذا سينعكس داخليًا على قوة موقف الرئيس عباس ضمن إطار هذه الجزئية.
في هذا القرار، شأن غيره من القرارات، بنودٌ قد لا تحوز على الإجماع، مثل مطالبة السلطة الفلسطينية بجمع السلاح غير الشرعي، أو مكافحة ما يصفونه بالإرهاب. وعلى الرغم من أنّ هذا ليس مقبولاً، فإنّه ليس بيت القصيد، المهم في القرار على المستوى الدولي إدانة الاستيطان، واعتباره غير شرعي، والإجماع الأممي حول ذلك، وهو ما يجب البناء عليه. ومن هنا، ينبغي عدم الالتفات إلى دعاوى الذين لا يميّزون سوى الجزئيات، ويعجزون دومًا عن رؤية الأشياء كما هي فعلاً وتمييز وجهها الرئيس، فلا يرون في القرار سوى دعوته إلى سحب السلاح أو حلّ الدولتين، وهو حالهم عندما يرفضون الدعوة إلى مقاطعة منتوجات المستوطنات، بحجة أنّها تبرّر شرعية احتلال فلسطين التاريخية، إنّه منطق الذين لا يعترفون بأنّ النضال والنصر، في نهاية المطاف، ما هو إلّا مجموعة خطوات تتراكم باتجاه الهدف الرئيس.
من جهة أخرى، ينبغي الحذر من الذين يقفون على الطرف الآخر، ويرون في القرار مبررًا للعودة إلى المفاوضات، ويستغلّون أي نجاح جزئي يتحقق على المستوى الدولي لتبرير إخفاقاتهم المتكرّرة وإصرارهم على المضي في نهج التسوية ذاته.
ينبغي أن يستغل هذا القرار لتضييق الخناق على العدو، وعزله دوليًا، ووقف التنسيق الأمني معه، وتصعيد المقاومة بأشكالها كافة ضده، باعتباره جزءًا من مسيرة الشعب الفلسطيني النضالية. ولعلّ أهم ما فيه أنّه كشف، بوضوح، مدى ضعف الكيان الصهيوني وعزلته الدولية، وهو ما يُضاعف من الأمل والعزم بالقدرة على تحقيق الانتصار عليه.