مقالات مختارة

مستقبل العلاقات التركية الروسية بعد اغتيال السفير د. ليلى نقولا

 

كانت لافتة مسارعة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الالتفاف على الغضب الروسي بعد اغتيال السفير كارلوف في أنقرة؛ بإدانة الاغتيال والسماح للمحققين الروس بالقدوم إلى تركيا والمشاركة في التحقيق بحادثة الاغتيال، وهو العارف بأن الروس لن يتسامحوا مع الأمر، وأنهم لا ينسون ضحاياهم، ولا يصفحون بسرعة بدليل الردّ الروسي على حادثة إسقاط الطائرة الروسية، والذي لم تنتهِ مفاعيله الاقتصادية لغاية الآن (لم يُزل الروس كافة العقوبات الروسية على تركيا لغاية الآن)، وبدليل أن الاستخبارات الروسية ما زالت تقوم بتنفيذ إعدامات لقادة الفصائل الشيشانية الذين يعيشون في تركيا أو في قطر .

لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل اغتيال السفير الروسي في تركيا عن الظروف المحيطة بهذا الاغتيال تركياً وسورياً، والتي تشكّلت قبل الاغتيال مباشرة وأفضت إليه، والتي ستؤسس لمرحلة ما بعده، لذا، من الصعب الاعتقاد بأن قاتل السفير الروسي قد نفّذ عمليته بصفته “ذئباً منفرداً”، ومن المهم جداً الالتفات إلى ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين حول “اليد التي وجّهت القاتل”، لندرك أن الشكّ الروسي يتّجه إلى أبعد من “داعش” أو “العمل الفردي“.

لذا، تبدو مسارعة كل من أردوغان وبوتين إلى تحييد دور الحكومة التركية في عملية الاغتيال والإشارة إلى أن الاغتيال “يستهدف العلاقات الطيّبة بين روسيا وتركيا والتسوية في سوريا”، محاولة للإشارة، ولو بصورة غير مباشرة،إلى هوية “اليد” التي وجّهت القاتل، ولو لم يتمّ تسميتها علناً.

يبدو من غير المفيد استباق التحقيق والإشارة إلى الجهة التي يمكن أن تكون قد حرّضت على عملية الاغتيال، والتكهُّن أو الإشارة بإصبع الاتهام إلى “كل المتضررين” من التسوية السورية والخاسرين في معركة حلب لاتهامهم بهذه العملية، بل يبدو مفيداً أكثر تصوُّر ما يمكن أن تكون عليه العلاقات التركية – الروسية بعد هذه العملية:

أولاً:بغض النظر عن التنصُّل التركي من العملية وإدانة أردوغان للعمل، تبقى الحكومة التركية والرئيس أردوغان مسؤولَيْن بصورة مباشرة، كونهم لم يستطيعوا أن يحفظوا أمن السفير والبعثات الدبلوماسية في تركيا، وهي مسؤولية سيادية بالدرجة الأولى، وترتبط بأن المنفذ شرطي بالدرجة الثانية.

من هنا، فإن الإتراك سيعمدون إلى تقديم الكثير من التنازلات في الملفات المشتركة بينهم وبين الروس، تحاشياً لغضب الروس، وخوفاً من الانتقام الذي يمكن أن يقوم به الرئيس بوتين، وسيستغل الروس هذه العملية، التي تضاف إلى “الطعنة التركية” في الظهر، والتي تجلت بإسقاط الطائرة الروسية في سورية، ليدفعا تركيا إلى مزيد من التنازلات في الملف السوري، “تكفيراً” عن الأخطاء التي قاموا بها.

ثانياً: تُظهر السياسة الروسية الكثير من البراغماتية والحذق في الشرق الأوسط، فقد أثبتوا أنهم قادرون على اللعب على التناقضات والاستفادة من الكثير من الأمور، منطلقين من حسابات الربح والخسارة، فعملوا على الاستفادة من الأرباح بدل التشفّي بالانتقام الموجع؛ فبدل أن يقوم الروس بالرد الانتقامي المباشر على تركيا في موضوع إسقاط الطائرة، عمدوا إلى الضغط على الاقتصاد التركي؛ بضرب السياحة والزراعة والتجارة والشركات والعمّال الأتراك، وحينما اعتذر أردوغان عن فعلته وجاء طالباً العون بعد الانقلاب الفاشل ضده، أخذ الروس منه ما يريدون في ملف الغاز (مشروع السيل التركي). وفي الملف السوري، قايض الروس أردوغان على المشروع الكردي في سورية؛ بتخلّي الأتراك عن جزء من المجموعات المسلّحة في معركة حلب، وسحب أكبر عدد منهم للمشاركة في “درع الفرات”، ما عجّل في إنهاء معركة حلب بسرعة.

من هنا، فإن اغتيال السفير الروسي في تركيا، ومسؤولية تركيا المعنوية كدولة ذات سيادة، ستكون حافزاً للروس للمطالبة بمزيد من التنازلات التركية في الملف السوري، وإجبارهم على تنفيذ التعهدات التي قطعوها في آب الماضي بعد المصالحة الشهيرة بين أردوغان وبوتين، والضغط على الأتراك لفكّ تحالفهم مع “جبهة النصرة”، أو على الأقل توقُّف الدعم العسكري التركي لـ”النُّصرة” التي تُعتبر أكثر التنظيمات قوة وفعالية في الشمال السوري. أما سياسياً ودبلوماسياً، فقد تكون تركيا هي المبادر – بدون ضغوط روسية مباشرة – إلى تقديم “الهدايا” السياسية للروس في حلف “الناتو”، منها – على سبيل المثال لا الحصر – تعطيل قدرة “الناتو” على اتخاذ قرارات ضد الروس أو إصدار بيانات إدانة ضدهم؛ كما فعلوا حين رفض الأتراك النقاش في موضوع شرق حلب في اجتماع حلف “الناتو” الأخير، والذي كان من المفترض أن يخرج ببيان إدانة “يحمّل الروس المسؤولية عن المجازر التي حصلت في حلب“.

إذاً، المراهنون على سوء العلاقات التركية – الروسية بعد حادثة الاغتيال سيخيب ظنّهم، وستشهد العلاقات التركية – الروسية تحسناً سينعكس إيجاباً على ملف التسوية السورية، فيستفيد الروس من الأهمية الاستراتيجية لتركيا، ويستفيد الأتراك بتكريس أنفسهم اللاعب الإقليمي “السُّني” الذي سيوازن اللاعب الإيراني في المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى