إلى أين ستأخذ الشاحنة القاتلة عقلانية ميركل؟: وسيم ابراهيم
حينما كانت ألمانيا تحت الصدمة، تبحثُ عن مُنفّذ اعتداء الشاحنة القاتلة، تسربت سيدة مرتبكة، ترتدي الأسود مع بضعة رجال، لتضع وردةً بيضاء بجانب شموع الحداد المضاءة في سوق عيد الميلاد المكلوم. لم تستطع خلع حالة الذهول عن ملامحها، لتبدو مثل من يحاول مراعاة طقوس مجتمعٍ خاصّ جاء يزوره .
لكن ما حصل كان طبيعياً جداً، لا تمثيل فيه. ليست هذه نوع المناسبات التي تجيد فيها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التصرف، لكن السيدة المعروف عنها كتمان مشاعرها كانت تعرف أنه حدثٌ فارق في مسيرتها السياسية، كانت ترجو ألا تضطر للتعامل مع تبعاته. سيكون عليها الآن مواجهة الفجور اليميني المتطرف، بعدما جاءه هجوم الشاحنة كهدية لا تقدّر بثمن في طريقه للحصاد الانتخابي الصيف المقبل.
حتى يأتي الصيف، ستمرّ ببطء أشهرٌ عصيبة على عقلانية ميركل. كانت تعوّل على نهايةٍ أقل صخباً، تحفظ لها إمكانية اعتلاء المستشارية للمرة الرابعة، والمغادرة بكرامتها. لكن الكرامة مشكلة كبيرة هنا. المشكلة مع الفجور أنه لا يلطّخ من يمتهنه، عن سابق اصرارٍ ومصلحة جليّة، بل من سيجدُ نفسَه مضطراً، مستدرجاً رغماً عنه، إلى منافسته.
هل من حاجةٍ لاستراتيجية انتخابية للفجور أصلاً؟ بحسب ما نشر عن خطط حزب “البديل لالمانيا” المتطرف، استراتيجيته يمكن أن تكون الآن: “مزقوها تماماً”. هذا ما يحصل عملياً. قبيل هجوم برلين، تسربت للصحافة الالمانية وثيقة داخلية للحزب المتطرف، توصي باعداد “استفزازات مخطط لها بعناية”. المطلوب من تلك الاستفزازات إجبار المنافسين، خصوصاً تحت ضغط التغطية الاعلامية، على القيام بـ “ردود فعل عصبية”. ليشتموا الحزب، فهذا المطلوب، لأنه “كلما وصموا الحزب تعزز موقعه“.
بعد هجوم برلين بدقائق، دقائق فقط، لم يحتج بعض قادة حزب “البديل” إلى أي مواساة وسؤال عن المصابين. لا حاجة للسؤال عمن فعل ذلك. منهم خرج عنوان “هؤلاء قتلى ميركل”، قبل أن تتفرع حملة أن دماء الضحايا على يديها. الحزب الذي يتخذ من التحريض على الاجانب، المهاجرين، اللاجئين، المسلمين خصوصاً، وجهاً سياسياً، كان يترقب هديّة كهذه بأشواق عارمة.
ليس واضحاً إن كان ما قالته ميركل، بعد الحادث، استراتيجية مضادّة. قالت إنه لو تبين أن مرتكب الهجوم هو طالب للحماية وللجوء، فسيكون حينها “صعباً علينا احتمال” ذلك. ربما كان اعلاناً مدروساً للإفلات من الهجمة الجاهزة باتهام “عيش حالة الانكار”، التي اتهمت بها وسائل اعلام تغطي بمهنية. لا فرق بالنسبة للخصوم. حينها كان الحزب المتطرف قد قطع شوطاً في شحن قضيته الجاهزة للرأي العام، لتخرج قيادته بإعلانات “ميركل انتهت“.
المسألة محسومة بالنسبة لقيادة الحزب: المسؤول سلفا، قبل أن يقع أي حادث أو هجوم، هو المستشارة التي فتحت الابواب أمام اللاجئين صيف 2015. لا يهمُّ أنها تراجعت عن ذلك سريعاً، بعد أشهر، لتصنع صفقة تغلق معها البوابة التركية. من الآن حتى الانتخابات، سيخوض الحزب المتطرف معركة لا كرامة لشيء فيها، ليدور العالم حول اللاجئين، موصولاً بشعار تهديد الاسلام الوجودي لأوروبا.
ليس صعباً تصور أن مئات آلاف اللاجئين في المانيا كان لديهم أمنية واحدة بعد سماع أخبار الحادث، حينما كان اليمين المتطرف يصدر حكمه ضدهم مباشرة. “كل شيء إلا أن يكون له علاقة باللجوء”، هي أمنية لن تجد ما يحققها، لا الآن ولا في أي وقت، مثلما ستكون أمنية أن يصير مجتمع بأكمله، فرداً فرداً، سرب ملائكة. سيكون هناك دائماً ما يمكن تصيده في يوميات السكان اللاجئين، مثلما حال أي سكّان، ولن تنفع المواجهة بالسؤال لماذا تصنع الدول سجوناً لمواطنيها؟
الآن تدور الشبهات حول صاحب السوابق، السجين السابق، الملاحق لأشهر من أجهزة استخبارات المانيا، لكن كل هذا سيضعه المتطرفون جانبياً ليتحدثوا عن “طالب اللجوء” أنيس عامري. ليس مُهماً إن كان تونسي الأصل، أم من مجرمي أي دولة على هذا الكوكب. إنه فقط هم. اختصار أكثر من كافٍ لتأجيج الغضب المربح انتخابياً.
بدأ “البديل لألمانيا” عام 2013 حزباً هامشياً، أخطأ نسبة خمسة في المئة لدخول البرلمان حينها. خطابه كان يركز على التحشيد ضد مشاركة المانيا الوازنة في عمليات “إنقاذ” دول اليورو، إنقاذ عملتها بالأحرى خلال ذروة الازمة المالية. غادر الحزب التركيز على الحجج الاقتصادية، التي لم تنفع كفاية مع بلد يعيش بحبوحة فوائض مالية كبيرة، ليركب موجة التخويف من اللاجئين، فور ظهور القضية، ملتصقاً بدعاية حركة “بغيدا” (معادة “أسلمة” أوروبا).
الآن بات الحزب ممثلاً في المجالس البلدية لعشر ولايات من أصل 16 ولاية المانية، فيما تعطيه الاستطلاعات بحدود 15 في المئة على المستوى الوطني. لا يزال بعيداً من حزب ميركل، مع نحو 32 في المئة، وشريكه “الحزب الديموقراطي الاشتراكي” مع نحو 24 في المئة. ستكون معركة حامية. الفجور لن يترك حيزاً كبيراً، إما المنافسة معه نحو القاع، أو تجاهله استناداً إلى وجود أقلية صغيرة، نحو 18 في المئة، تبدي دعمها لأفكار يبني عليها اليمين المتطرف.
الآن يصاحب “البديل لألمانيا” دعايته مع خطاب قومي، مذكراً الالمان أنه ليس عليهم جلد أنفسهم دوماً بتذكّر الهول الانساني لماضي النازية الذي صنعته بلادهم يوماً. ميركل بفتح بوابات اللجوء كانت تحاول معالجة تلك العقدة التاريخية بشكل آخر، أو بالأحرى الوقوف أمام استعادتها. تمّ تحميل برلين مسؤولية اجبار حكومة أثينا على الخضوع لشروط الانقاذ المالي، لتخرج صحف يونانية ساخطة بعناوين عودة “الرايخ الثالث“.
ربما كانت “سياسة الترحيب” باللاجئين أفادت هنا، كما حالها مع رفد اقتصاد قاطرة صناعية عالمية تعاني شيخوخة يدها العاملة. ليس واضحاً بعد كيف ستتعامل ميركل مع الحملة الشنيعة لليمين المتطرف، خصوصاً أن دونالد ترامب فاز برئاسة أميركا مستخدماً خطاباً ليس أحطّ أخلاقياً بكثير، مثلما فاز معسكر خروج بريطانيا قبله تحت شعارات مغلفة بالاستنهاض القومي. الفجور أثبت هناك فعالية انتخابية مفاجئة، مع جرّ الخصوم للحاق بالكذب والتهويل والتخويف، فيصير كل ذلك بعيار أكبر.
الآن، في هذه الأيام، يقال إن المانيا عبرت مفترقاً. صارت على قائمة ضحايا الارهاب. يقف في صفّ المستشارة ثقافة متصدّرة، متواصلة، من فضح جرائم النازية، الخوف من كل ما يذكّر بها، لكن ترك الأمر يسير إلى التخيير بين “أقلّ الشرور”، وما هو مصدر الخوف الأكبر، سيعني مواجهة مخاطر عالية.
(السفير)