تقارير ووثائق

معالم السياسة الخارجية لترامب وفريقه د.منذر سليمان

 

       اعلان دونالد ترامب عن مرشحه لوزير الخارجية، ريكس تيلرسون، رافقه صخب وضجيج دل على عمق الهوة الفاصلة بين سياسات المؤسسة الحاكمة “التقليدية،” وبين توجهات ترامب لانتهاج مسار جديد يبتعد عن المواجهة والصدام والكف عن اللعب على حافة الهاوية مع روسيا في القضايا العالمية .

       تجدر الاشارة الى ان حقيقة الجدل الدائر بين فريقي السلطة، من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، وتصاعده بشكل ملحوظ باتهام الديموقراطيين لروسيا بالتدخل في جولة الانتخابات الرئاسية، واكبه رفض صريح وقاطع للاتهام من فريق ترامب وبعض مؤيديه في الكونغرس. استحضار المؤسسة لاثارة مشاعر العداء لروسيا تحديدا ينذر بتوجه قيادات الحزب الديموقراطي العودة “لزمن مكارثي” الاقصائي لكل من ينتقد او يتباين مع سياسات المؤسسة الحاكمة، ويأمل المراهنة على استنهاض الجناح الجمهوري المتشدد تقليديا ضد روسيا، لتشكيل تحالف مصلحي مؤقت لعرقلة اي مسار انفتاحي لترامب.

       قيادات بارزة من الحزب الديموقراطي في الكونغرس سارعت لمناشدة الرئيس اوباما خطيا، مطلع الاسبوع الجاري، اجراء تحقيق عاجل في تلك المسألة. وجاء في المذكرة “نعرب عن عظيم قلقنا من جهود روسيا لتقويض والتدخل بل والتأثير على نتائج الانتخابات الاخيرة.”

       التباين الاكبر ربما هو في روايتي وكالة الاستخبارات المركزية، سي آي ايه، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، اف بي آي، المنوط به التحقيق في اعمال التجسس والانتهاكات الداخلية. رواية الاولى، التي تبناها اقطاب الحزب الديموقراطي، تتهم “اطرافا اخرى ترتبط بالاجهزة الروسية” القيام باعمال تجسس. وبالمقارنة، جاءت رواية مكتب التحقيقات شبه قاطعة في عدم مشاطرتها او تقاطعها مع مزاعم الاولى، وفق ما تسرب عبر بعض اعضاء لجان الاستخبارات في الكونغرس.

روسيا خصم أم شريك، من نصدق؟

       سيل تصريحات ترامب ونواياه لا تدعو للارتياح لتشكيل لوحة توضح معالم سياساته المقبلة، في ظل ميله للتهور والاندفاع، بل تنضح بالابهام والتناقض في التوجهات. اي محاولة متواضعة لفهم مدارك الرئيس المنتخب ستقود الى الاقرار بركيزتين تخرجان عن المألوف في توجهات الحزب الجمهوري وقياداته التقليدية.

       لعل ابرز القضايا الخلافية لترامب مع المؤسسة الحاكمة هي علاقاته المستقبلية مع روسيا التي يعتبرها بمثابة “شريك” يمكن التفاهم والعمل معه، على نقيض التوجهات الرسمية التي تعتبر روسيا “خصم،” بل عدو ينبغي مواجهته بشدة.

       تمثلت الرؤى الاميركية لروسيا والاتحاد السوفياتي بثلاثة تيارات، وفق اسبوعية ذي اتلانتيك: الاول، اعتبرها صراعا بين حضارتين تستند كل منهما الى رؤيتها وادراكها لمفهوم الله – كان من ابرز رموزها المسيحيين الانجيليين المتشددين؛ الثاني يعود للمحافظين الجدد الذين استندوا الى وهم تفوق وتميز النظام السياسي الاميركي على كافة ما عداه – من اقطابه اشتهر بول وولفوويتز واليوت ابرامز؛ الثالث، المدرسة الواقعية التي اعتبرت الصراع مع روسيا والاتحاد السوفياتي قبلها صراعا تحدد ملامحه المصالح الجيوسياسية – والتي يمثلها هنري كيسنجر، على سبيل المثال.

       تعرض ترامب لحملة انتقادات واسعة من داخل الحزب الجمهوري على خلفية تصريحاته المتباينة حول روسيا وتراجع الخطاب العدائي لها؛ يعزوها بعض الخبراء الاميركيين الى تطور في الوعي الاميركي العام ونظرته الى روسيا منذ عام 2014 – بالتزامن مع تعثر المشروع الاميركي في المنطقة. البعض الآخر يشير الى المصالح والاستثمارات الاقتصادية التي يملكها ترامب مع روسيا كمبرر لتعديل الخطاب السياسي. بالمقابل، قلة ضئيلة من المراقبين اشارت الى العامل العنصري في توجهات ترامب وفريقه الانتخابي وازدهار شعار “روسيا تمثل القوة البيضاء الوحيدة في العالم.”

       سيواجه ترامب مقاومة قوية من اقطاب الحزب الجمهوري في الكونغرس، ولاسيما جون ماكين وليندسي غرام، حول روسيا واللذين يطالبان الحكومة الاميركية بفتح تحقيق لكشف ما يعتقدانه تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية افضت الى فوز ترامب.

فريق متباين الاراء ولكن الرئيس صاحب السمو!

       نظرة فاحصة على ترشيحات الرئيس المنتخب لبعض المناصب الرئيسة تدل على جملة معطيات، منها ايلاؤه الاولوية للقيادات العسكرية المتقاعدة واستقطاب كبار الاثرياء وما يجمعها من تباينات في الرؤى والقناعات المختلفة، وما سيرافق ذلك من تسخير نفوذها والتأثير في بلورة وصياغة القرار السياسي الاخير للرئيس المقبل.

       منصب وزير الخارجية: الاعراف والتقاليد السائدة، قبل ترامب، كانت تستقطب المرشح لمنصب الوزير من داخل المؤسسة شريطة امتلاكه لخبرة وافية في مجال الاستراتيجية والسياسة الخارجية. التحولات الداخلية التي طرأت على المشهد السياسي الاميركي برمته، منذ عام 2001، ابرزت اولوية منصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي واهميته القصوى في بلورة وصياغة سياسات الرئيس الاميركي.

       تباينت آلية تعامل الرؤساء الاميركيين مع وزراء خارجيتهم بصورة ملحوظة. الرئيس اوباما، على سبيل المثال، اعتمد بشكل كبير على خبرة وحنكة وزير خارجيته جون كيري، بينما طبع البعض الآخر تعامله مع الوزير بازدراء – الرئيس نيكسون، الذي اعتمد على قنوات منفصلة في تعاملاته الديبلومسية عبر مستشاره للأمن القومي كيسنجر، واحال الوزير ويليام روجرز الى مرتبة ادنى واقصاه عن التوجهات السياسية الهامة آنذاك: الانفتاح على الصين ومفاوضات معاهدة الحد من الاسلحة الاستراتيجية – سالت مع الاتحاد السوفياتي.

       في ضوء ما تقدم من عرض لأهم المناصب، مايك فلين لمنصب مستشار للأمن القومي وريكس تيلرسون لمنصب وزير الخارجية، بالامكان القول ان الدعم الملموس الذي حظي به تيلرسون من قيادات نافذة في الحزب الجمهوري، وزيري الخارجية والدفاع الاسبقين – جيمس بيكر وروبرت غيتس، تؤشر بمجموعها على تولي الوزير المرشح المهام الديبلوماسية المعتادة وكذلك الاضطلاع بدور هام في المفاوضات الاقتصادية.

       منصب مستشار الأمن القومي: مرجع وولاء مستشار الأمن القومي مرهون بالرئيس الاميركي نفسه، ويستثنى المرشح من قيد الحاجة لموافقة مجلس الشيوخ عليه. ونظرا لطبيعة المهام الملقاة على عاتقه كمستشار خاص للرئيس، باستطاعته التأثير المباشر في صياغة وبلورة مسائل تتعلق بشؤون الأمن القومي، بمستوى اعلى من منصب وزير الخارجية عينه.

       وعليه، فالمنتظر من المرشح للمنصب، الجنرال مايك فلين، لعب دور هام ومؤثر في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن القومي بشكل عام؛ واستحداث مشاعر العداء للعقيدة الاسلامية التي يعتبرها “مثل السرطان.”

       منصب وزير الدفاع: بخلاف التقاليد والاعراف المتبعة في معظم الدول الصناعية، فان وزير الدفاع الاميركي ليس هو من يقدم المشورة العسكرية للرئيس، بل رئيس هيئة الاركان.

       تربع وزير الدفاع في منصبه يخوله التحكم بالهياكل والمراتب العسكرية المختلفة، وتحديد الاولويات المستقبلية التي يجري وفقها صرف الميزانيات المخصصة. على سبيل المثال، وزير الدفاع في عهد الرئيس اوباما ركز انظار المؤسسة العسكرية على تطوير قدرات القوات الخاصة، وايلاء القوات التقليدية مرتبة ادنى.

       في الحالة الراهنة، من الثابت ان الوزير المرشح، الجنرال جيمس ماتيس، سيساهم بدور كبير في صياغة الاستراتيجية العسكرية استنادا الى خبرته المهنية الطويلة، مع تركيز الجهود على صيانة الهياكل العسكرية وتوفير الاسلحة الضرورية وتحفيزها لتنفيذ الاوامر الرئاسية كأولوية.

       وزير الأمن الوطني: استحدثت الوزارة في عهد ولاية الرئيس السابق جورج بوش، في اعقاب الهواجس الأمنية واحداث ايلول 2001؛ ولا زال هيكلها القيادي يتلمس طريقه بصعوبة نظرا لضخامة العاملين في الوزارة وتقاعسها عن تفعيل جهود التنسيق مع الاجهزة الأمنية الاخرى، كما كان مقررا لها. لكن الوزارة تحتل موقعا متقدما ومؤثرا في بلورة الاجراءات الأمنية، لا سيما النقاط الحدودية والمطارات ووسائل النقل الاخرى. ونظرا لطبيعة مهامها في “حماية” حدود الدولة، المشتركة مع المكسيك بشكل ادق، يتنظر منها ان تشكل خط الدفاع الاول في مواجهة موجات الهجرة والمهاجرين، سواء للذين يمتلكون وثائق رسمية او يفتقدونها، علاوة على التيقن من هويات الداخلين ومدى ارتباطهم بالتنظيمات الارهابية.

التعاطي الرسمي المقبل

       يتوصل المرء بقليل من الجهد والعناء الى تحديد القضايا الدولية “المركزية” التي تواجه ادارة ترامب، والتي تشكل أس الخلاف مع الوضع الراهن لناحية تعريف “خطورتها” واولوية التعامل معها؛ وهي: ايران؛ سوريا وتنظيم داعش؛ روسيا؛ الصين؛ ودور الولايات المتحدة المقبل على الصعيد العالمي برمته.

ايران

       تتشاطر الرؤى الاميركية المختلفة في عدائها للدولة الايرانية، وتتباين حول آليات التنفيذ؛ بيد انها مجمعة على الاستمرار في ممارسة العقوبات الاقتصادية ضدها – على الاقل من الجانب الاميركي. تطور التقنية النووية لدى ايران شكل نقطة فاصلة في الوعي والتعاطي مع طهران، والتلويح بابطال مفعول الاتفاق النووي المبرم دوليا معها. كما ان تطور الصناعات العسكرية الايرانية، تحت الحصار، لا سيما في مستوى الصواريخ الباليستية، يشكل عامل قلق اضافي للنخب الحاكمة بغية تحجيم ترسانتها على اقل تعديل. اما الشكوك في نية ايران تصنيع قنابل نووية فهي تسري في عموم مراتب المؤسسة والنخب الحاكمة، الأمر الذي يعزز أهمية الدور المنتظر من وزير الخارجية المقبل لتحقيق جملة من الاهداف.

       الوزير المرشح، ريكس تيلرسون، امتنع عن الادلاء بتصريحات سياسية، خاصة حول الملف الايراني برمته، واكتفى بترديد خطاب سياسي تقليدي قائلا “نحن لا ندعم انزال العقوبات، بشكل عام، اذ اننا لا نعتبرها ذات فعالية باستثناء تطبيقها بصرامة وشمولية، وهي مهمة شاقة القيام بها.”

       العقوبات الاقتصادية الاميركية، في حال تفعيلها، ستضم وزارة المالية ايضا، اذ تناط مهام تنفيذ الاجراءات بوزير المالية المقبل.

       الجنرال فلين، ضمن مهام موقعه، سيكون له دور بارز في السياسة الاميركية نحو ايران؛ كما ان مهامه السابقة كرئيس وكالة الاستخبارات الدفاعية اتاحت له الفرصة للتعرف عن كثب إلى كل ما يتعلق بنشاطات ايران “العسكرية،” فضلا على الاجراءات المتخذة لمواجهتها ومدى فعاليتها. خطاب فلين حول ايران اتسم بصراحته الشديدة في التعبير عن معاداته لايران، من ناحية، ولما يعتقده من ان ايران تمارس نفوذها وتنشر مفاهيمها المتشددة في الاقليم. وعليه، من المرجح ان تتميز توجهاته في منصبه الجديد بسياسة اشد عدائية نحو ايران.

       وزير الدفاع المرشح، جيمس ماتيس، ايضا يعتبر ايران “مصدر تهديد رئيسي لاستقرار المنطقة،” متقدمة في رؤيته على تنظيمي القاعدة وداعش. واوضح في احد تصريحاته الاخيرة انه “يعتبر تنظيم داعش لا يتعدى مجرد مبرر لايران للاستمرار في سياساتها الضارة. فايران لا تناصب العداء لداعش، بل لديها الكثير لتجنيه من الاضطرابات في المنطقة التي تقف وراءها داعش.” وذهب ابعد من ذلك حين انتقد سياسة الرئيس اوباما واتهامه بالسذاجة في تعاطيه مع النوايا الايرانية؛ والكونغرس ايضا نال حصته من الانتقاد “لتقاعس دوره” اثناء مفاوضات الاتفاق النووي.

سوريا

       نظرا لأهمية سوريا في الاستراتيجية الكونية الاميركية، فمن المرجح ان يحظى مستشار الرئيس للأمن القومي بمهام متقدمة في هذا الشأن، وربما ستكون له الكلمة الفصل. لكن ترامب، من جانبه، سيصغي جيدا لوزيري الدفاع والأمن الوطني انطلاقا من خدمتهما العسكرية في الشرق الاوسط لتعزيز توجهاته وقراراته في نهاية المطاف.

       عند حضور ملف داعش، يشار الى دور الجنرال فلين في ديمومة تحذيراته من التهديد الذي يمثله التنظيم؛ بل ان اسرافه في التحذير هو ما ادى الى اقالته من منصبه مبكرا. ونقل الصحافي المميز، سيمور هيرش، عن فلين قوله ان الاخير “اكد لي بأن وكالة (الاستخبارات الدفاعية) دأبت على ارسال سيل من التحذيرات السرية (للمراجع العليا) .. حول التداعيات الخطيرة المرتقبة بعد الاطاحة (بالرئيس) الاسد.”

       واضاف فلين ان جهاز الاستخبارات تحت امرته اصدر عدة تقارير استخباراتية الطابع توضح الدور المركزي للمجموعات الاسلامية المتشددة وتحكمها في المشهد السوري؛ مما اثار حفيظة البيت الابيض الذي رمى لترويج روايته الخاصة حول سوريا، ودفع فلين الثمن غاليا باقصائه عن موقع القيادة.

       فيما يتعلق بالسياسة المرتقبة للتعامل مع تنظيم داعش، سيحافظ وزير الدفاع المقبل على دور مميز في شن الحرب عليه. يشار الى ان الجنرال ماتيس طالب عام 2012 صناع القرار بتقديم اسلحة متطورة للمجموعات المسلحة في سوريا، لاعتقاده ان ذلك سيقتص من نفوذ ايران وحلفائها في سوريا؛ وايضا ناشد التعامل بحذر مع حلفاء الولايات المتحدة في الاقليم معتبرا ان احدى الاولويات الاميركية تكمن في تعزيز العلاقات مع حلفائها العرب بغية الحاق الهزيمة بتنظيم داعش. علاوة على ذلك، حذر ماتيس من ان تركيز الجهود الاميركية لمحاربة داعش ستأتي على حساب “التهديد” الاشمل من ايران.

       على الرغم من عدم انخراط وزارة الأمن الوطني مباشرة في جهود مكافحة داعش، الا ان المرشح لمنصب الوزير عبر عن ضيق ذرعه مما اعتبره تفادي الحكومة الاميركية الاقرار بانخراط “بعض” القوات الاميركية في العمليات القتالية في الشرق الاوسط، سعيا للحفاظ على صدقية وعود الرئيس اوباما بأنه لن يتخذ قرارا من شأنه دخول القوات الاميركية البرية المعركة والوزير المرشح للمنصب، جون كيلي، شدد على ان تفادي الادارة الاقرار بالأمر الواقع – انخراط قوات اميركية مباشرة “ينتقص من التضحيات التي يواجهها اولئك، خاصة في حال مقتلهم، عند القول انه لا يوجد قوات على الارض.”

روسيا

       تصاعد حساسية آليات التعامل المعقدة مع روسيا تقتضي انتهاج حذر شديد، مما يرجح تعاون الرئيس المقبل مع الثلاثي: وزيري الخارجية والدفاع ومستشاره لشؤون الأمن القومي.

       انطلاقا من الخلفية التجارية لوزير الخارجية المرشح، تيلرسون، ستوكل اليه مهمة ادارة الملف الاقتصادي وحشد دعم دول حلف الناتو للحيلولة دون تراجعه او انفراط عقده. يشار الى ان الاتهامات الموجهة له لعلاقاته “القريبة” من الرئيس بوتين واجراء سلسلة حوارات معه ستعطيه زخما اضافيا لتولي مسؤولية ادارة الملف الروسي.

       لم يخفِ تيلرسون معارضته لاجراءات العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، خاصة تلك المتعلقة بقطاع الطاقة، لادراكه المسبق ان روسيا بحاجة الى تقنية الغرب للحفاظ على مستويات انتاجها من النفط. ومن ثم، باستطاعته ممارسة ضغوط على روسيا دون الحاجة الى انزال عقوبات ضدها.

       اما المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي، فلين، فكان شديد الوضوح بمطالبته صناع القرار في واشنطن مبكرا “العمل بايجابية مع روسيا في سوريا؛” وذك بالرغم من هواجسه السابقة على خلفية مناخ الحرب الباردة ابان خدمته في كتيبة المظليين 82 الملحقة بالقوات البرية الاميركية.

       يعتقد فلين ان القوات الروسية تمتلك اضخم ترسانة من القوات المجوقلة في اوروبا، تتفوق بذلك على ترسانة كافة دول حلف الناتو مجتمعة. ومن غير المرجح ان يحابي فلين سياسة الرئيس اوباما المرتكزة الى نشر وحدات مدرعة صغيرة في عموم دول اوروبا الشرقية بغية وقف زخم اي هجوم محتمل.

       يجمع الخبراء ان فلين قد يسدي نصائحه للرئيس المقبل بضرورة تفادي الولايات المتحدة اي اشتباك مع روسيا خلال الفتارة الزمنية الضرورية لاعادة بناء وهيكلة القوات الاميركية التقليدية، التي “يعتقد” ان جهوزيتها تدهورت الى حد كبير خلال فترتي رئاسة اوباما لثماني سنوات. بالمقابل، سيطالب فلين باعادة بناء وتجهيز قوات مجوقلة ومحمولة تقليدية باحجام تكفي لتوفير سبل الدفاع الضرورية لقوات حلف الناتو.

       تشكيلة القوات المنوي اعدادها وتسليحها وادارتها ستقع على عاتق وزير الدفاع جيمس ماتيس، وهو الآتي من صفوف القوات العسكرية وباستطاعته بلورة صورة هيكلية مناسبة.

الصين

       سارع الرئيس المنتخب ترامب الى تمييز نواياه حول الصين عن السياسة الاميركية المعتمدة والتي تعتبر الصين “قضية واحدة.” وقد تبرز الصين كاحد الملفات الشائكة بامتياز خاصة في ظل تصريحات ترامب ابان الحملة الانتخابية بأنه عازم على اعادة التفاوض مع الصين حول قضايا تم التوصل لاتفاق مسبق معها حول التجارة المتبادلة، اضافة لنية الصين تخفيض قيمة عملتها الوطنية، اليوان، امام الدولار مما سيجعل المنتجات الصينية ارخص من تلك الاميركية.

كما ان اقطاب المؤسسة الحاكمة تجمع على نظرتها العدائية للصين رغم اعتبارها شريك تجاري هام للولايات المتحدة، وتنظر اليها كعنصر تهديد استراتيجي رئيس على النفوذ الاميركي في المحيط الهاديء؛ على خلفية بسط الاخيرة نفوذها في مياه بحر الصين الجنوبي، وعلاقتها دائمة التوتر مع نظام تايوان.

       كما في حال روسيا، سيضطلع وزير الخارجية المرشح، تيلرسون، بمهمة ادارة العلاقات الديبلوماسية مع الصين وفي مقدمتها القضايا الاقتصادية والتجارية. يشتهر تيلرسون بدعمه القوي لاتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهاديء، التي تضم 11 دولة، باعتبارها “احدى افضل التطورات الواعدة على هذه الساحة .. (الدول الاعضاء) واصلت العمل على خفض الحواجز امام التجارة وانهاء العمل بسياسات الحماية؛ والكل مدرك لأهمية عامل السوق المفتوح للتنمية والازدهار في كل دولة على حدة.”

       سياسة الانفتاح على الصين، الموكلة لوزير الخارجية المرشح، تقابلها سياسة احتواء الصين عسكريا المنوطة بوزير الدفاع فلين، وفي الوقت عينه توفير مستوى معقول من وسائل الدفاع لتايوان؛ والتي قد تتضمن اعادة انتشار بعض القوة الاميركية في مياه بحر الصين الجنوبي. التفاصيل العملية لتلك الترتيبات ستقع على عاتق رئيس هيئة الاركان، جيمس ماتيس.

       حذر فلين حديثا من التقارب الصيني – الروسي وانعكاساته على الاستراتيجية الاميركية اذ “ينبغي على الولايات المتحدة النظر جيدا لتلك العلاقة،” زاعما ان الصين تستغل بلاده “لضمانها أمن منابع وتدفق الطاقة دون مقابل .. ولم تضطر لنشر حاملة طائرات واحدة” في منطقة الخليج العربي.

       من المرجح ان يستمر فلين في التحذير من تنامي النفوذ الصيني في المياه الدولية، والدفع باتجاه استنباط سبل ضغط مستمرة، علاوة على القوات العسكرية الاميركية المنتشرة. بيد ان جزء كبير من الترسانة العسكرية الاميركية، لا سيما البحرية، مستنفذة في منطقة الشرق الاوسط وليس بوسعها التحرك السريع لسد فجوة في المحيط الهاديء في ظل غياب افق تسوية سياسية في سوريا والعراق وايران وحسم المعركة ضد تنظيم داعش.

       الموقف المطلوب اتخاذه من تلك القضايا يفسر الى حد بعيد ميول الرئيس المنتخب للتعامل، وربما التحالف، مع روسيا؛ اسوة بما فعله الرئيس الاسبق نيكسون عندما سخر “ورقة الصين” في خدمة استراتيجيته ضد الاتحاد السوفياتي آنذاك. بعبارة اخرى، باستطاعة ترامب ومستشاره للأمن القومي، مايكل فلين، استغلال التقرب من روسيا كوسيلة ضغط ضد الصين. كما ان ذلك يصب في سبر اغوار الخطاب التصالحي لترامب امام رئيس الفيليبين، رودريغو دوتيرتيه الذي دشن ولايته الرئاسية بالتهجم على الرئيس اوباما وسياساته نحو بلاده التصالح” المرتقب مع روسيا سيوفر للولايات المتحدة نشر قواتها وترسانتها الموجودة في سوريا والعراق في مواجهة الصين، بل مجرد التهديد بذلك سيضع الصين امام متغير جديد ينبغي اخذه في الحسبان.

الدور الاميركي في العالم

       يجادل البعض انه على الرغم من غلبة العناصر العسكرية في تشكيلة ادارة ترامب المقبلة، الا ان ذلك لا يعني تلقائيا انه سيتخذ مواقف تصعيدية وقتالية، في المدى المنظور على الاقل. العقيدة العسكرية المشبعة للجنرالات الجدد تجعلهم اشد حذرا عند استخدام القوة العسكرية، في اي ساحة كانت، ان كان عليهم الاقتصاد في استخدام القوة. مستقبلهم المهني والارث العسكري مرتبط بمدى تحقيق الاهداف وعدد الانجازات، ويجنحون للافراط في استخدام القوة العسكرية لاحراز نصر سريع وباقل الخسائر، ومشاركة بعض الحلفاء لتحمل نسبة معينة من الكلفة البشرية والمادية. اما الحروب الطويلة دون افق وسقف يحددها فيتم تفاديها بكل الطرق الممكنة.

       من المرجح ان يستند فريق الرئيس المنتخب لشؤون لأمن القومي الى تلك الصيغة، والسعي لتجميد وربما انهاء الساحات الملتهبة الراهنة في الشرق الاوسط، مع ديمومة تركيز الجهود على تنظيم داعش وايران على السواء.

       مواجهة ايران، في عرف القيادة الاميركية، تستدعي تجديد العقوبات الاقتصادية عليها؛ بينما المعركة ضد داعش تجد متسعا من حيز المشاركة لبعض القوى الحليفة، مثل الاكراد، والتحالف الجديد مع روسيا، وامتدادا مع سوريا، كما يعتقد. حينئذ، ستتضح معالم الهدف لانهاء الحرب والقضاء على تهديد التنظيمات الارهابية لاوروبا واميركا معاً؛ وسيصبح بوسع الولايات المتحدة ممارسة ضغوط حقيقية على دول الخليج لوقف دعمها وتمويلها للمجموعات المسلحة في سوريا.

       احدى خصائص فريق ترامب القادم انه يمتلك ادراكا اوضح لسقف القوة العسكرية الاميركية وكيفية تسخيرها بفعالية اكبر في خدمة المصالح الاميركية. ثلاثي الجنرالات: مايكل فلين القادم من صفوف الفرقة المحمولة جواً؛ جون كيلي ذو الخبرة الطويلة على متن حاملتي طائرات؛ وجيمس ماتيس الآتي من خلفية قيادة قوات بحرية قرب سواحل باكستان وترؤس تنفيذ عمليات عسكرية في افغانستان، يمتلك خبرة عملية في كيفية تسخير القوة الاميركية، وامتدادا لن يكون من السهل تورطهم في الدخول بمعارك مقبلة دون تحديد معالم الخطة والاهداف المرجو تحقيقها.

       ايضا من خصائص فريق ترامب المقبل النفوذ الواضح للعنصر العسكري، مقارنة مع تكوين فريق الرئيس اوباما خلال ولايتيه الرئاسيتين الذي ضم بين اعضائه سياسيين واعضاء من مجلس الشيوخ وبعض الاكاديميين.

       وانطلاقا من المعطيات سالفة الذكر لفريق ترامب، وخاصة التصريحات المتعددة لاسترضاء روسيا، من المرجح اتخاذه خطوات عاجلة تخص الاوضاع في سوريا وايران وتنظيم داعش. ولن يكون مستغربا على ترامب ترجمة نيته في التحالف مع روسيا، بصيغة او باخرى.

       لا يسع المراقب الا الاقرار بخاصية مشتركة لفريق ترامب المذكور تتلخص في ميله لحسم قراراته وتطلعه لتحقيق النصر. الأمر الذي يقود الى الاستنتاج بأنه سيقلص حجم ورقعة المغامرات العسكرية المنتشرة عبر العالم والتشبث بتحالفات متجددة مع حلفاء الولايات المتحدة. وباستطاعة الفريق ممارسة الضغوط الديبلوماسية والدعم الاقتصادي كسلاح للحفاظ على متانة الاحلاف، ولن يبخل في استخدام القوة العسكرية واتخاذ قرار بالحسم حين يتطلب الأمر ذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى