حلب في زهوتها بقلم د.أريج يعقوب العساف
المعرفة تمدُنا بماء الحياة، والوعي ينقلنا من المسؤولية المحدودة الأثر، إلى المسؤولية الإنسانية العميقة والبعيدة الأفق. هذه النقلة في المسؤولية فكرة خالدة، وركيزة أساسية في نظام الوعي الأخلاقي والقومي والوطني والإنساني، وفي فلسفته للحياة. هكذا فهم أبناء سوريا الحياة في معناها الشمولي، وهكذا امتلأت قلوبُهم بحب الوطن والإخلاص له، وهكذا وجّهوا أنظارهم نحو نبيل الغايات، ثم التفتوا إلى ماضيهم المجيد، وحاضرهم المتوثّب، ثم انطلقوا إلى العمل تحفّزهم هممُهم إلى السير في سبيل المستقبل المشرق. لقد طُبِعتْ نفوسُهم على تمجيد الوطن والإخلاص له، وعرفوا المناضلين في وطنهم فشعروا بالعزة والفخار، واتخذوهم قدوة حسنة يترسّمون خطاهم، ويسيرون على نهجهم في قوة وشموخ .
انتصارُ جيشنا وشعبنا في حلب، يومٌ مشهودٌ في تاريخنا السوري، وتحوّلٌ كبير في مجرى الأحداث العالمية في هذا العصر، بعد أن تعاونت كلُ عناصر الشر في العالم الذي يدّعي الحرية وحق تقرير المصير، تعاونوا على تجزئة سوريا، والقضاء على تاريخها، وتطلعات شعبها، فسفّه أبطالُ سوريا أحلام المعتدين، وردّوا كيدهم لنحورهم. إنه يومٌ حمل ثمرةَ جهودٍ وجهادٍ دانية القطوف، شهية يانعة، نفحتها أنسامٌ من روح الله. انتصار أبطالنا على أعدائنا في حلب هو فرحة عمر، ونسمة سعادة تهزّ الكيان. إنّ خلاص سوريا من الظلاميين أمرٌ محتومٌ لن تستطيع أيادي الظالمين مهما عتتْ ومهما اصطنع أصحابها من قوى الشر أن يغيّروا من قدَرها المحتوم في حريتها ووحدة أجزائها. فتح أبطالُ سوريا نوافذهم للشمس، وصنعوا صفحات ناصعة للأجيال القادمة على أفضل طريق للتحرر والبناء والخلود. أعلن أبطالُ جيشنا ومناصروه من ذوي الهمم العالية أن تبقى سوريا موحدة وقوية لا يستبدّ بها ظالم. أعلنوا أنهم متوجهون نحو الأمام، كي يضيفوا لَبِنةً إلى صرْح الأمة العربية، وأن يكونوا سنداً لأحرار العرب جميعهم، يُعادون من يُعاديهم ويسالمون من يسالمهم. تصدّى جيشنا وأباة شعبنا لأعداء سوريا الذين جهدوا أن تغدو معقل عدوانٍ وبغيٍ، ووكر فتنة وشرور. شرّد هؤلاء الملايين من السوريين من منازلهم، وبساتينهم، ومعاملهم، وأرادوا لبلاد الشمس ـ سوريا ـ إقامة دويلات صغيرة متناحرة، فيما بين كل دولة وأخرى أبعد مما هو بين القطبين. أرادوا لأبناء سوريا أن يُميتَ الذلُ قلوبَهم، وأن تُزهَقَ كرامتُهم، ولكن سفّه الإعصارُ الهادرُ أحلامَهم. لم تنحنِ للسوريين هامة، ما دامت تجري في دمائهم أمجادُ ماضي آبائهم وأجدادهم، وما داموا يتمثّلون تاريخهم الصانع الخالد. هؤلاء لا يرضون بغير الحرية والكرامة بديلاً، لأن قلوبهم فتية، وعزيمتهم ماضية. أبَوا أن يشاركهم في امتلاك وطنهم دخيلٌ، فامتشقوا سلاحهم، وساروا نحو الشمس إلى أن وضعوها في حقائبهم، وزمجرت ثورتهم بالعواصف والردى، وغدا الواحدُ منهم فيلقاً عرمرماً يسدُّ على الأعداء كلَ السبل. يطلبون الردى ويشتاقونه كما يشتاق الظمآنُ للماء القُراح. أهل حلب هم فيلقٌ من فيالق جيشنا السوري، منذ عصور موغلة في القدم. وشاهدنا على ذلك مثالنا: عندما أراد الروم ـ أعداء العرب ـ غزوَ البلاد العربية نهضت حلب وقلاعها للتصدي لهؤلاء الغزاة، دفاعاً عن وحدة الأمة العربية، لم تكن حلب تحمي نفسها، بل كانت تحمي منطقة بأسرها. لم تكن تمثّل فكرة إقليمية بل كانت تمثّل فكرة أوسع من حدودها وقلاعها. إنها تحمي فكرة القومية العربية. قام أهلُ حلب بكل أطيافهم يدافعون عن فكرة القومية العربية، والمواطَنة الأصيلة، وحماية وحدة تراب سوريا، يدافعون عن أرضهم وسمائهم، وعن البلاد التي ترعرعوا فيها، وعن القومية العربية التي سرتْ في عروقهم كدمائهم الطاهرة. هذه هي الفكرة التي تبلوِرُ الانتصار، وتُحقِق الآمال وتدرأ الأخطار وتثبِّت دعائم القومية.
عانت حلب الشهباء من حصار الظلاميين ضيقاً اقتصادياً، كاد يودي بأهلها، ويلقي بهم في هُوّة الجوع والحرمان، ومشوا الطريق الطويلة بين العبودية والحرية حتى صعدوا من هاوية الحصار المضروب عليهم من قبل أعداء الله والوطن إلى قمّة الاستقلال عن الفكر الظلاميّ، وشرذمة البلاد جامعين أمجاد الماضي والحاضر وأمجاد المستقبل. انطلق أهل حلب وقُراها الشرفاء قائلين: “باسم الله نبدأ في بلادنا بإقامة مصانعَ صغيرة تمهّد لحياة جديدة رغيدة، بعد أن انتزع أعداء الله والوطن معاملنا ومصانعنا وباعوها لأعداء سوريا من تُركٍ وعربٍ أغراب”. وعلى اسم الله مشوا إلى منابع أنوار المستقبل الواعد رافعين الرؤوس، فخورين بأنهم لم يأتوا بالحرية وحدها، وإنما جاؤوا معها بالتصميم على أن تصبح حلب ونواحيها رمزاً لتصميمهم على السير في بناء وطنهم المتحرر من الأفكار الظلامية التي حاولَ أعداء الله والوطن تطبيقها في بلادنا، وإعادة عجلة التاريخ إلى عصور ما قبل الحضارات.
صنائع أهلنا في حلب تذكارٌ لمعارك أبطال سوريا ضد أعداء الله والوطن، وتخليد لانتصاراتهم ضد الذين شحذوا المُدى لتمزيق وحدة سوريا، والحطّ من عظمة شأنها في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. أهل حلب وقراها وساكنوها الشرفاء حياة متجددة، وهم قوة وعون وسند وذخر لمعارك طويلة على طريق طويلة لتحقيق الأهداف العربية السورية.
يا حلب الشهباء!! لقد حاصرَ الأعداء سماءك، وأطفؤوا مصابيحك، فأطلعتِ في سمائكِ وبيوتكِ شموساً للحرية تستنيرين بها. دمّر المغولُ الجددُ بيوتكِ، فأعليتِ بناء صروحكِ التي شيّدها العزّ والإباءُ والثباتُ على حبّ الوطن. صادروا حياة أهليكِ فاستقبلَ أبناؤك الموتَ برباطة جأشٍ، كي يُشعلوا مصابيح الحرية في طريقهم الموصلة إلى ذرا أمجادهم. شرّدوا أهلكِ يا قلعة الصمود! فازدادوا في غربتهم تمسّكاً بحب الأرض التي هانت عليهم أرواحُهم من أجل سُودِ عينيها. قطعوا المياهَ عن شعبكِ، فاستمطرتِ ماءَ الحرية شراباً. كلُ ما فعله بأبنائكِ وأرضكِ ـ يا معشوقة السوريين!!ـ التتارُ والمغولُ الجددُ من تخريب وتدمير وتقتيل وتشريد وانتهاك أعراض وسطو على معالمك الحضارية، ونهب لتراثكِ الثقافي والأدبي والفني، ابتكر أهلوكِ لهذا الداءِ دواءً، ألا وهو: عشقكِ حتى العبادة ـ بعد الله ـ حبٌ جارفٌ ألقمَ أعداءكِ يا حلب الصمود! ألقمهم الموتَ الزؤام، ثم انطلاقة نحو موارد الضياء، تجدلين خيوطَ الشمس حبالاً، تتعلقين بها في صعودكِ نحو منابع أنوار الحرية.