عن سوريا ولبنان مرة جديدة
غالب قنديل
التجربة التي اجتازتها العلاقات اللبنانية السورية، منذ السبعينيات كانت حافلة بالأزمات والمشاكل. ولكنها تحمل أيضا كمية كبيرة من العِبر، التي ينبغي على كل عاقل ممن يتعاطون الشأن العام ان يتعلم منها. وأول ما يجب القاؤه، في النفايات قبل النقاش المجدي، هو منطق الحقد والعداء الأعمى، الذي يُظهره كثيرون، ممن أقاموا علاقات مع العدو الصهيوني في مراحل متعددة. بحيث يَظهر حقدهم على سوريا نتيجةً طبيعية لارتباطات خفية وعلنية مع الكيان الصهيوني، عليها شواهد كثيرة، وتبرهن عنها كمية كبيرة من الأفعال والجرائم، التي مهما حاول من حاول، لا يمكن أن تُشطب من تاريخ البلد.
الحرب العدوانية التي استهدفت سوريا، كانت واحدة من أهم التجارب، التي عاشتها العلاقات اللبنانية – السورية. وإذا أردنا بعقل بارد توصيف ما جرى، واستخراج العبر، يتبين لنا مجموعة من الشواهد والوقائع، التي تستحق التوقف اليوم. بينما تدخل الحرب الاستعمارية على سوريا فصولها الأخيرة، في هزيمة شنيعة ومشهودة، لحقت بعصابات الإرهاب والمرتزقة، التي جُنِّدت لتدمير سوريا، وجُلِبت من مختلف أصقاع الأرض.
أولا: تبيَّن أن كذبة النأي عن الأحداث في سوريا، التي اختارتها الطبقة الحاكمة في لبنان، لم تكن فحسب، تنصُّلا من المسؤولية اللبنانية عن دعم الجهود السورية في مكافحة الإرهاب، الذي تَبيَّن أنه كان خطرا يهدد الجميع ولا يزال، بل هو يَقضُّ مضاجع العالم باسره. وهذا ما قالته القيادة السورية منذ البداية، وقاله أصدقاء سوريا من اللبنانيين، وتنكَّرت له جماعة من السياسيين الدجالين، الذين لبسوا أقنعة الثورة، وصاحوا كثيرا بشعارات كبيرة، لا تتّصل بتاريخهم ولا بنهجهم ولا بسلوكهم، فمن أين جاءت تلك النزعة الثورية، وما هو مصدرها الحقيقي؟. الجواب عند جيفري فيلتمان، وعند المخابرات الأميركية والصهيونية والفرنسية والبريطانية، مدعَّما بقوة المال القطري والسعودي.
إذاً، أنتم في لغوكم عن ثورة سوريا، كنتم تابعين تقدمون خدمات لقوى أجنبية، ولهيمنة الأجنبي على بلاد الشرق. ولم تكونوا آبيهن بمصالح المنطقة وشعوبها، واساسا بمصالح الشعب اللبناني، كنتم الصدى لإرادة خارجية غربية خليجية، تنفذون ما تؤمرون به.
ثانيا: لو كان النأي صادقا بمفاعيله، لكان انطلق في البداية من ضرورة منع، وتفكيك المنصات، التي أقامتها قوى لبنانية لتخريب سوريا انطلاقا من لبنان. ويمكن لأي كان أن يعود الى الصحف الأميركية، والغربية عموما، ليطالع التحقيقات عن تهريب السلاح الى لبنان ومنه الى سوريا. وكذلك، عن موضوع تجنيد الإرهابيين وتدريبهم وإرسالهم الى سوريا، من لبنانيين وخليجيين، قدموا الى لبنان، لينتقلوا عبر الحدود. وهذا ملف كامل مكتوم، لم تُنشر وقائعه، ولا نتائج التحقيقات بشأنه، بصورة فعلية، بما في ذلك قضية الباخرة فتح الله، وغيرها الكثير الكثير من قضايا دعم الإرهاب، التي يمكن تكوين ملفاتها ضد قيادات سياسية لبنانية، الذين اتصلوا بجبهة النصرة، بالواسطة القطرية، ليبحثوا عن إمكانية التوصُّل لاتفاقات، والذين نظَّموا غرف العمليات في لبنان للمخابرات الخليجية والتركية، وبالتنسيق مع الأجهزة الفرنسية، والذين قدَّموا كل ما بحوزتهم من المؤازرة الإعلامية، بتعميم الأكاذيب، وبتزوير الحقائق، وبنشر روايات كاذبة وخادعة، وبمحاولة تحويل لبنان الى منصّة للتحريض الإعلامي ضد الدولة السورية في خدمة الارهاب. هؤلاء جميعا، كانوا جزءا من عدّة الحرب. وحكومات النأي صاحبة البيانات المعلقة، ورئاسة النأي، التي لم تكن بمستوى المسؤولية، لم تحرّك ساكنا ضد تلك الجرائم، بل تواطأت مع مرتكبيها، في طمس الحقائق أمام الرأي العام اللبناني لتستمرّ كذبة “دعم الثورة”. اليوم، نستطيع بكل بساطة، أن نقول إن تلك الثورة، التي كانت جحافل قاعدية، وفلولا داعشية، تسوِّغ عقابا، لكل من ألبسها أقنعة أخرى، بتهمة ارتكاب جرم التزوير والتضليل، وتسويق الإرهاب. أليست تلك جرائم يعاقب عليها القانون في كل دول العالم “الحرّ”؟!
ثالثا: انتصار الدولة السورية جاء في حصيلة ملحمة كبرى خاضها الشعب والجيش والقائد الرئيس بشار الأسد. والتنكُّر لهذه الحقيقة، التي بات العالم بأسره، على وشك الاعتراف بها علنية، هو بمثابة تصميم على تحكيم الحقد والكراهية، في التعامل مع مصلحة لبنانية جوهرية. فالقتال في سوريا، الذي خاضه الجيش السوري وحلفاؤه، وفي طليعتهم المقاومة اللبنانية، كان لحماية لبنان، وليس فقط دفاعا عن سوريا. وتعزيز الأمن والاستقرار والتماسك الوطني اللبناني، يستدعي تثبيت منظومة المواجهة مع خطر الإرهاب، عبر أعلى درجات التنسيق السوري – اللبناني، السياسي والإعلامي والأمني والقضائي. وينبغي القول هنا، إن مبادرات قام بها حزب الله، دفاعا عن سوريا وعن لبنان، هي التي اسقطت ذلك الويل، الذي كان يتهدد جميع اللبنانيين. والتنكُّر لهذه الحقيقة، بالتصميم على خطب بائسة وتافهة، تنتمي الى حلف العدوان على المنطقة وعلى لبنان، الذي يحتضن التكفير، امر بات مرفوضا جملة وتفصيلا. يجب أن تُفتح الحسابات مع الفريق اللبناني، الذي تواطأ في دعم الإرهاب، وقابل سعة الصدر عند المقاومة وحلفائها بالنكران والجحود والتحريض المؤذي، الذي يضرّ بالمصلحة اللبنانية، قبل كل شيء.
رابعا: الشراكة اللبنانية السورية، التي تشكَّلت وتعاظمت، في القتال ضد الإرهاب التكفيري، وفي التصدِّي للعدوان الصهيوني، وما فيه من تهديد دائم ومستمر للسيادة اللبنانية، انبثقت عنها كتلة مقاتلة متناغمة، باتت تخيف كيان العدو. وإسقاط هذه الحقيقة من الحسابات، هو عمل يصمِّم عليه البلهاء التافهون، الذين تعوَّدوا أن يفكروا كما تأمروهم الاستخبارات الاجنبية. هذا أمر يجب أن يقال في الواقع اللبناني، وللرأي العام اللبناني، حتى تصير على أساسه أي نقاشات جادة ومسؤولة في تعيين مصلحة البلد.
هناك قادة كبار، كفخامة الرئيس ميشال عون، والوزير سليمان فرنجية، أدركوا حقيقة الخطر منذ البداية، وجاهروا بالتصدّي لعصابات التكفير والإرهاب. وهناك من راهن على تلك العصابات، كالشيخ سعد الحريري وسمير جعجع ووليد جنبلاط. ويجب أن يدفع هؤلاء الثمن المعنوي لتراجعهم، او لتزحلقهم الى مواقف ملتبسة جديدة، في عملية التراجع، التي لا يريدون معها أن يقولوا الحقيقة، أو أن يعرف الناس الحقيقة. يجب أن يقال لهم، لقد قلتم كذا، وفعلتم كذا، وها هي الأحداث تكشف وتفضح حقيقة ما كنتم تقومون به. لقد كنتم قوّة دعم وإسناد للإرهاب التكفيري، الذي يستهدف سوريا، ولا يقف عند الحدود، بل يطال لبنان. ومنصاتكم الإعلامية والسياسية والأمنية، التي انشأتموها في لبنان، ارتدت على البلد بمخاطر وويلات، وذهبت بأرواح. وهذا أمر لا يجب أن يُطمس، أو يتم التحايل عليه، أو المسايرة بشأنه.
هذا أول الكلام في جردة حساب ستطول. ولكن يجب أن تُسمّى الأشياء بأسمائها.