كيف سيتعامل العهد الجديد مع المبادرة السعودية؟ د. ليلى نقولا
منذ بداية ما سُمِّي “الربيع العربي”، تجد المملكة العربية السعودية نفسها في بيئة استراتيجية مختلفة عمّا عرفته منذ عقود، إذ إنها تواجه أزمات اقتصادية، معطوفة على استنزاف عسكري في اليمن، بالإضافة إلى عدم استقرار علاقاتها مع مظّلتها الأمنية الأميركية. ولعل السياسة التي استخدمتها السعودية للردّ على هذه التحديات، أدّت إلى تردّي الأوضاع المالية في المملكة، والتي حذّر صندوق النقد الدولي من أنها قد تؤدي إلى إفلاس السعودية.
بالغت المملكة في الإنفاق وشراء صفقات أسلحة لأهداف سياسية، ومحاولة القيام باستثمارات مالية دولية لمقايضتها بمواقف سياسية لم تؤدِّ إلى تبدُّل موازين القوى لا في اليمن ولا في سورية، كما أنفقت المبالغ الطائلة على تأسيس “لوبي سعودي” في الولايات المتحدة لتسويق أفكار المملكة، والتي لم تحصد سوى قانون “جاستا” الذي أيده الكونغرس بأغلبية ساحقة تقارب الإجماع، إضافة إلى كلفة تمويل الحروب العسكرية، خصوصاً تمويل المجموعات المسلحة في سورية، وكلفة حرب الاستنزاف في اليمن، والتي بلغت مئات مليارات الدولارات.
أما في قرار سياسة إغراق أسواق النفط بزيادة الإنتاج، لإلحاق الضرر بالاقتصادَين الروسي والإيراني، ولإفلاس شركات إنتاج النفط الصخري في أميركا، فبدت السعودية كمن يطلق النار على رجليه، فانهيار أسعار النفط أضرّت باقتصاد المملكة أيضاً، إذ إن 90 بالمئة من الدخل القومي السعودي يعتمد على النفط.
إذاً، تعيش المملكة في بيئة استراتيجية تتسم بالقلق على المستقبل، فلم تحقق أي انتصار عسكري لا في اليمن، ولا في سورية، ولم تستطع أن تجعل مصر تدور في فلكها، ويبقى لبنان الساحة التي لها نفوذ تاريخي فيه، والتي تحاول إعادة تعويم دورها فيه بعد عودة الرئيس سعد الحريري إلى الحكم، وتجلّى ذلك في مبادرتها للتقارب مع الرئيس عون ودعوته إلى السعودية، فكيف يمكن أن يتصرف العهد؟
تبدو الخيارات المتاحة أمام الرئيس عون على الشكل الآتي:
1- الانقطاع عن السعودية والانخراط كلياً في “محور المقاومة”، الذي يحقق انتصارات هامة في الإقليم، خصوصاً في سورية، والمساهمة اللبنانية في إضعاف النفوذ السعودي إقليمياً من البوابة اللبنانية. هذا الخيار الذي يطالب به بعض الصحافيين والسياسيين المقرَّبين من المقاومة، خصوصاً بعد وصول العماد عون إلى الرئاسة، دونه عقبات كبيرة وخطيرة تجعله مُضراً بلبنان ووحدته وسلمه الأهلي، فقد يؤدي إلى المسّ بالاستقرار الداخلي، وإغراق لبنان بأزمات داخلية متتالية، نتيجة شعور طائفة بالغبن والتهميش، بالإضافة إلى تعطيل العهد الجديد قبل أن يبدأ.
2- إعادة تعويم الدور السعودي في لبنان، ومحاولة انتشال السعودية من مأزقها الإقليمي بجذبها لأداء دور هام في لبنان يشبه إلى حد بعيد نفوذها السابق، وهذا ضرب من الخيال، ولا يمكن لأي طرف لبناني أن يتحمّل تبعاته، خصوصاً بعدما أدرجت السعودية حزب الله على لائحة الإرهاب، وأقرّت عقوبات على اللبنانيين المرتبطين به.
3- الحفاظ على نوع من التوازن الحكيم والمدروس في علاقات لبنان الإقليمية بين المحورين المتصارعَين، بالتوازي مع احترام الميثاقية التي تمنع إلغاء أي طائفة من منطلق أن إلغائها يعني إلغاء لبنان. وهكذا، يحترم لبنان تعهداته الدولية وقرارات الأمم المتحدة، ويلتزم بما أعلنه رئيس الجمهورية في خطاب القسم لناحية التزام لبنان ميثاق الجامعة العربية حول عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول العربية الأخرى، وعدم السعي لتغيير الأنظمة بالقوة، وهذا الخيار المفترَض لا يعني ألا يكون للبنان موقف من القضايا الإقليمية، ولا أن يكون محايداً في الصراع العربي – “الإسرائيلي”، بل أن يؤمّن لمواطنيه حرية الرأي السياسي والتعبير عنه، وألا ينخرط كلياً في محور ضد آخر، مما يجعل لبنان ساحة لصراع الآخرين على أرضه.
وعليه، قد تكون السعودية متجهة إلى الخسارة في الإقليم، خصوصاً بعد مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض واتجاه أوروبا إلى “اليمين”، وبعد قلب موازين القوى العسكرية في سورية والاستنزاف في اليمن، لكن هل من مهمة اللبنانيين زيادة هذه الخسارة، وحتى لو كلّفتهم استقرارهم الداخلي؟ وهل يجب أن يسير لبنان وراء الرؤوس الحامية في المحورين المتصارعين التي تريد دفع لبنان إلى أتون حرب أهلية؟ وهل يتخيل عاقل أن الرئيس عون الذي دفع أثماناً كبيرة نتيجة تفاهمه مع المقاومة، والذي يدين للسيد حسن نصر الله بمقاومته للضغوط الإقليمية والداخلية، مما أوصله إلى رئاسة الجمهورية، قد يقفز إلى السفينة الغارقة لإنقاذها؟ وهل يقبل السيد حسن نصر الله، الذي أعلن يوماً “فلنحيّد لبنان ونتقاتل في سورية”، بإدخال لبنان في صراع محاور لن يُبقي ولن يذر؟
بالنتيجة، لا يمكن للرئيس عون إلا أن يلتزم الثوابت اللبنانية التي أعلنها دوماً، وهي أن على اللبنانيين أن يكونوا “أبعاداً لبنانية في الخارج لا أبعاداً خارجية في لبنان”، ما يعني السعي للحفاظ على لبنان، وعلى الاستقرار فيه، وإخراجه من دوامة الأزمات السياسية المتكررة التي أفقرت الشعب وعطّلت بناء الدولة.