هل يصبح الحكم “ماتت فصائل المقاومة”؟ – منير شفيق
ثمة حملات من المقالات متناقضة في منطلقاتها وفي أهدافها راحت تتقاطع عندما يبدو مشتركا بينها، وهو الحكم بفوات، أو موات، فصائل المقاومة الفلسطينية، مع عدم تسجيل أيّة إيجابيات لدور قامت به في مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني .
فالتقاطع في ما بين هذه المتناقضات لا يقتصر على النهايات، أو ما آل إليه وضع الفصائل الآن، وإنما يمتد لمرحلة منطلقاتها والنشأة والمسار، بعامة.
ولعل الحجة المستخدمة من قبل هذين التوجهين الممثلين لأقصى يسار، وأقصى يمين، إذا جاز التعبير، قامت وتقوم على عدم إنجاز الهدف الذي تأسّست فصائل المقاومة لتحقيقه. وهو تحرير فلسطين كل فلسطين، ابتداء من الميثاق القومي وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وانتهاء بتلك التي تشكلت بعد ذلك. وأصبحت جميعا فصائل المقاومة المعنية في حكم الفوات بمعنى أنها أصبحت من الماضي، وانتهى زمانها، أو حكم الموات بمعنى الموت عدا بقاء القيادات التي تقتات من ماضيها وإنجازاتها وهيبتها من دون أن تملك ما تقدّمه من جديد.
ربما لم يستخدم أصحاب هذا الحكم العبارات نفسها التي أشارت إلى مواقفهم من الفصائل التي ماتت أو تخطاها الزمن. ولكن في الجوهر والمقصود هو المعنى نفسه في نهاية المطاف. بل لعل عدم نقل ما استخدموه من عبارات نصا كان مقصودا حتى لا يعتبر أحدهم أنه المستهدف بذاته. لأن المقصود هو مناقشة جوهر الرأي أو في الأدّق محاولة لتقويم تجربة الفصائل، والأهم تقويم وضعها الراهن قيادات وكوادر. بمعنى الإجابة عن السؤال هل من الصحيح الحكم على فصائل المقاومة الفلسطينية بأنها ماتت، أو في حالة فوات وانتهاء، ولم يبق منها غير القيادات التي تعيش على ماضيها.
بداية إن الحكم على نجاح فصائل المقاومة، مجتمعة ومنفردة، بمعيار تحقيق الهدف الذي حملته منطلقاتها، ولو بعضه، يحمل ظلما شديدا. وذلك إذا ما اعتبر أن الهدف المقصود هو تحرير فلسطين كل فلسطين سواء أكان في مرحلة ما قبل 1967، أم بعدها. لأن إمكان تحقيق الهدف لم يكن متوفرا في كل المراحل التي نشأت فيها الفصائل حتى اليوم، وإلى مستقبل غير منظور. وإن أصبح اليوم أقرب من أي وقت مضى. وكان الأمر كذلك منذ بداية الهجرات الصهيونية التي تمت بعد 1918، تحت حماية الحراب البريطانية التي كانت مسيطرة على فلسطين حتى 1948. كما كان الأمر كذلك ما بين 1948/1949 و1964 مع تشكل م.ت.ف أو مع انطلاق الثورة الفلسطينية 1965.
يعود هذا البون الشاسع بين هدف تحرير كل فلسطين من جهة وتحقيقه من قبل فصائل المقاومة والشعب الفلسطيني وكل ما يمكن حشده في سبيل هذا الهدف من جهة أخرى، إلى موازين القوى العالمية والإسلامية والعربية والفلسطينية التي مالت ميلا هائلا في غير إمكان تحقيق هذا الهدف، وإلى حد يشبه المحال.
بعد الحرب العالمية الأولى التي انتهت عام 1917 تمت السيطرة الغربية بزعامة بريطانية على أغلب بلدان العالم عدا الاتحاد السوفياتي الذي ولد تحت الحصار الدولي الخانق وكان نصيب البلدان الإسلامية والعربية أن تقع عموما تحت الاحتلال المباشر أو شبه المباشر. أما فلسطين والبلاد العربية فقد قسّمت شرّ تجزئة، وتحولت إلى 22 قطرا وأكثر.
وكان نصيب فلسطين الاحتلال البريطاني المباشر الذي تعهّد بإقامة دولة الكيان الصهيوني فيها من خلال تهجير مئات الألوف من اليهود إليها. ولم يكن تعداد الشعب الفلسطيني يزيد على السبعماية ألف إلا قليلا. وقد وصل عديد قوات الاحتلال البريطاني إلى مائة ألف جندي لفرض ذلك التهجير وحمايته وتمكينه لإقامة دولته في 1948. وبالطبع لقمع مقاومة الشعب الفلسطيني التي راحت تقاتل ضمن موازين قوى عسكرية لا تقهر، وفيظل تجزئة عربية تحت الاحتلال المباشر وغير المباشر، وحدودها مغلقة، وأنظمتها تحت السيطرة، وجيوشها تحت الهيمنة الغربية تسّلحا وتدريبا (حملت اسم جيوش وهي أقرب لقوات أمنية من نوع هزيل).
أما بعد قيام دولة الكيان الصهيوني على 78% من فلسطين، وفيما ضُمت الضفة الغربية إلى الأردن ووُضِع قطاع غزة تحت الحكم العسكري المصري. وشُتّت ثلثا الشعب الفلسطيني، فيما استمر التحكُّم الدولي بتسلّح الجيوش العربية بعد الاستقلال. وأُعلنت حماية دولية لدولة الكيان، وتم تسليحه ليكون الجيش الرابع أو الخامس في العالم، ويكون بإمكانه احتلال أيّة عاصمة عربية ولا سيما العواصم التي من حوله. وذلك بسرعة الدبابة. وتكفي حرب 1956 وحرب 1967 لتؤكد هذه الحقيقة.
باختصار الشعب الفلسطيني مكبل ومجزأ والبلاد العربية مجزأة ومكبلة أو محاصرة، والبلدان الإسلامية تحت السيطرة الغربية مثلا “حلف بغداد”. وثمة تعهُّد من كل الدول الكبرى بضمان أمن دولة الكيان الصهيوني. أي جعل هدف تحرير فلسطين في مواجهة الدول الكبرى مجتمعة طوال مرحلة الحرب الباردة. هذا فضلا عما دُعمت به دولة الكيان الصهيوني من قوّة عسكرية، وما ضُرِب على البلاد العربية والإسلامية من حالات سيطرة، أو حصار، أو تهديدات بالغزو والانقلابات.
ولهذا من الخطأ أو التضليل استخدام هدف تحرير فلسطين كل فلسطين معيارا للحكم على المقاومة وفصائلها وقياداتها. لأن هذا المعيار فاسد من أساسه من جهة موازين القوى السائدة والظروف بعامة. لأنه سينتهي إلى نتيجة واحدة هي الاستسلام الكامل إلى أن تحين شروط تسمح بتحقيق الهدف.
والاستسلام الكامل يعني في الموضوع الفلسطيني تفريغ فلسطين كلها من سكانها وتوسيع حدود الكيان مع الأردن وسورية ولبنان ومصر إلى النقاط التي تحدّدها القيادة الصهيونية لتكريس أمن الكيان الصهيوني، أو إلى ما يمكن أن تصله استراتيجيته ومطامعه.
ولكن بالرغم من عدم مؤاتاة موازين القوى والظروف بعامة ومنذ نشأة المشروع الصهيوني وبدايات ترجمته على الأرض أفلم تكن المقاومة ضرورة من أجل استنزافه وإعاقةتقدمّه وفضح سياساته وحشد القوى والرأي العام ضدّه، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإبقاء ما يمكن إبقاءه من شعب فلسطين على أرضه وما شابه. وذلك إذا لم يكن بالإمكان التحرير الكامل؟ بل لماذا نتركهم يأمنون ويطمئنون وينامون ليلهم الطويل لو لم يكن بالإمكان إنزال الهزيمة الكاملة بهم؟.
من هنا فإن مسوّغات المقاومة حاضرة وواجبة وضرورية وحتمية حتى لو لم يكن تحقيق الهدف الأسمى في متناول اليد. ولكن هذا الهدف كان يفرض نفسه أن يكون هدف المقاومة لأنه يعني الحق والعدالة والشرعية. وقد أثبتت التجربة أن التخلي عنه كما حدث في اتفاق أوسلو وتوابعه حتى تغيير ميثاق م.ت.ف. يؤدي إلى المزيد من الاستيطان وتهويد القدس والمطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة بمعنى فلسطين حق لليهود فقط.
ولهذا فإنمن الخطأ الواضح والظلم الفادح محاسبة مقاومات الشعب الفلسطيني في الماضي كما في الحاضر على عدم تحرير كل فلسطين بتسجيل الأخطاء عليها إلى حدّ الحكم عليها، بالفوات أو الموات.
صحيح أن المقاومات، بما فيها المقاومة المعاصرة، لم تحقق الهدف الأسمى إلاّ أنها حققت الكثير من إعاقة تقدّم المشروع، ومحاصرته، وعزله، وانفضاحه، واستنزافه، فضلاً عما حققته من تعميق الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي حول عنصرية الصهيونية وعدالة القضية الفلسطينية. وما أرسته من ثقافة المقاومة وروح المقاومة وتوارثها جيلاً بعد جيل. وهذا وذاك من شروط الوصول إلى يوم تحقيق الهدف الأسمى.
ولهذا سادت الموضوعة القائلة بأن حربنا مع العدو الصهيوني وحماتِه طويلة الأمد. الأمر الذي ينفي الوقوع بالأوهام، ومع ذلك لا بدّ من وقفة لتقويم وضع فصائل المقاومة في المرحلة الراهنة.