«أحرار الشام».. الصراعات الداخلية أهم من حلب عبد الله سليمان علي
الارتهان شبه الكامل لإرادة السياسة التركية، والاتّكال على الدعم الخارجي، وفتح الأبواب لانضمام كل من هبّ ودبّ، وصراع الأجنحة المحتدم وراء ستائر الإنكار، جميعها من العوامل التي غيّبت ماء الحياء في وجه «حركة أحرار الشام الاسلامية» أمام أنصارها، فلم تجد أي غضاضة في أن تتزامن لحظة الانقسام داخلها بسبب الصراع على المناصب مع اللحظة التي تشهد فيها مدينة حلب معركة مصيرية قد تغير معادلة الصراع على كامل الأراضي السورية.
هي بلا شك لحظةٌ فاضحة بالنسبة لقيادة الحركة التي طالما أتقنت رفع الشعارات الجذابة «من مشروع أمة» إلى «ثورة شعب»، لكنها في اللحظة التي يفترض أن «مشروعها» أو «ثورتها» تتعرض لأكبر تحدّ يتمثل في خسارة أحياء حلب الشرقية، تناست الشعارات والأهداف، وانخرط قادة الصف الأول فيها في خلافات بين بعضهم البعض حول من يستلم منصب القائد العام للحركة خلفاً لـ «أبي يحيى الحموي» الذي انتهت ولايته.
ومن المتوقع أن تدفع الحركة ثمناً غالياً من وراء هذا التزامن الذي لا يدل إلا على استخفاف قادتها وغياب الوعي الاستراتيجي لديهم، بخلاف الصورة التي حاولت الحركة إبرازها عن نفسها طوال السنوات الماضية. والأدهى أن الخلافات التي طفت على السطح كشفت معها العديد من فضائح الفساد والسرقات وميول الغلو أو التمييع، التي طالت أسماءً كبيرة في قيادات الصف الأول والثاني.
وفي الساعات ذاتها التي كان الجيش السوري يرسم مساره لشطر أحياء حلب الشرقية إلى قسمين تمهيداً للسيطرة على القسم الشمالي، كانت الخلافات بين قادة «أحرار الشام» ترسم مسارها لشطر «مجلس الشورى» في الحركة إلى شطرين، تمهيداً لهيمنة أحدهما على قرار الحركة ومصيرها في المرحلة المقبلة.
وهكذا، أعلن ثمانية من أعضاء مجلس شورى الحركة تعليق أعمالهم في المجلس، بالتزامن مع اقتحام الجيش حي مساكن هنانو، يوم السبت الماضي.
وفي بيان مقتضب، لكنه انطوى على مؤشرات هامة، قال هؤلاء إن سبب تعليق أعمالهم هو «الوصول إلى طريق مسدود لحلّ الأزمات المتراكمة في الحركة منذ أكثر من عام».
ويُعد الأعضاء الذين علّقوا أعمالهم من صقور الحركة ورموز «التيار القاعدي» فيها، وهم: أبو جابر الشيخ قائد الحركة العام السابق، وأبو محمد الصادق «الشرعي العام السابق»، وأبو صالح طحان نائب قائد الحركة للشؤون العسكرية و «قائد الجناح العسكري سابقاً»، وأبو خزيمة السبيني «أمير قطاع الحدود والمسؤول عن معبر باب الهوى»، وابو ايوب المهاجر، وأبو علي الشيخ، وأبو عبد الله الكردي، والشيخ أبو عبد الله، وجميع هؤلاء أعضاء في مجلس الشورى الحالي.
والدلالة الأهم للبيان المقتضب، أنه تحدث عن تراكم الخلافات منذ عام، اي منذ تولّي مهند المصري قيادة الحركة خلفاً لأبي جابر الشيخ.
وبالتالي فالخلاف الحقيقي، وإن ظهر بمظهر الخلاف على المناصب، لكنه في الحقيقة أعمق من ذلك، وهو خلاف على النهج والسياسة، حيث أن الحركة منقسمة إلى تيارين يقود أحدهما «الأخوان نحاس» (كنان ولبيب)، وهذا التيار متّهم بالتمييع والارجاء والسعي لإرضاء الدول الداعمة ودول الغرب بغض النظر عن المبادئ. ويقود التيار الثاني الأعضاء الذين أصدروا بيان تعليق عملهم في مجلس الشورى، وهو متهم بأنه يحمل فكر «القاعدة» وينتهج نهجاً متشدداً في السياسة والعسكرة، وبعض أعضائه متهمون علناً بـ «الدعشنة»، أي حمل أفكار تنظيم «داعش».
وقد بدأ التيار الأول بالبروز بعد استلام مهند المصري قيادة الحركة، وإن كان له حضور واضح قبل ذلك، إلا أن المصري سمح له بالتغلغل أكثر في مفاصل الحركة الهامة والتأثير على آلية اتخاذ القرارات فيها. كما أن ولاية المصري شهدت توجيه صفعات قاسية للتيار الثاني، أهمها عزل أبي محمد الصادق من منصب «الشرعي العام»، وعزل أبي صالح طحان من منصب القائد العسكري العام، كذلك إعادة هيكلة العديد من مكاتب الحركة، لا سيما تلك المعنية بالأمور الشرعية وإصدار الفتاوى الدينية.
كما تراخت الحركة في شروط الانتساب إليها، فأصبحت ملجأ للعديد من الفصائل المتهمة بالسرقة أو عمليات الخطف، وكذلك للفصائل التي تحاربها فصائل أخرى كما مع عناصر «جبهة ثوار سوريا» و «حركة حزم» ومؤخراً «تجمع فاستقم». ودخلت في معارك مع فصائل أخرى، كان آخرها ضد «الجبهة الشامية» في مدينة اعزاز الحدودية.
لكن الأهم هو أن العمل السياسي طغى على الجانب العسكري في الحركة، لدرجة أن قادة الجناح السياسي اصبحوا يتحكمون بمجمل القرارات التي تصدر عن الحركة بخصوص مختلف القضايا السياسية والعسكرية وحتى الأمنية، بذريعة أن جميع هذه القرارات قد تكون لها ارتدادات إقليمية ودولية.
هذا الواقع دفع العديد من قادة الحركة إلى الاعتراض عليه عبر الدعوة الخجولة إلى عودة الحركة إلى مسمى «كتائب أحرار الشام»، أي العودة إلى العمل العسكري فحسب.
وخلال ذلك تعرضت الحركة لهزّات عديدة، كان آخرها انشقاق «لواء اشداء» عنها واعتزال أبو العباس حلب القيادي فيها وعضو مجلس الشورى العمل السياسي والعسكري بعد تعرضه لمحاولة اغتيال من قبل قادة في الحركة، علماً أن أبا العباس هو قائد «لواء الاسلام»، أحد أكبر ألوية الحركة في حلب.
وقد انعكس هذا الواقع على سياسة الحركة بوضوح، وتمثل ذلك في اتخاذ قرارات مصيرية مثل دعم مشروع المنطقة الآمنة الذي طرحته أنقرة مطلع العام الحالي والضغط على «جبهة النصرة» للانسحاب من ريف حلب الشمالي، ثم دعم «عملية درع الفرات» بقيادة الجيش التركي، وأخيراً رفض الاندماج مع «جبهة النصرة» برغم قرار الأخيرة فك ارتباطها مع تنظيم «القاعدة». ويرى العديد من قادة الحركة وأنصارها أن هذه السياسات كان لها تأثير كبير على مجريات معركة حلب، لأن الحركة تبنت نتيجة الهيمنة التركية توجهاً يقضي بدعم العمليات العسكرية بريف حلب الشمالي ولو كان على حساب أحياء حلب الشرقية.
ومؤخراً استقال من الحركة عدد من قادتها المصريين، أبرزهم أبو اليقظان المصري وأبو شعيب طلحة المسير، نتيجة اعتراضهم على توجهات الحركة.
وقد كان التيار الثاني يراهن على عامل الوقت وقرب انتهاء ولاية مهند المصري، ليتسلم زمام الأمور في الحركة ويعيد العديد من القضايا والقرارات إلى نصابها الصحيح. وخلال ذلك لم يسكت هذا التيار عن الصفعات التي كان يتلقاها، بل حاول مقاومة بعضها ومنع بعضها الآخر، وهو ما ظهر في رفض قرار عزل طحان والضغط حتى تمت إعادته لمنصب نائب قائد الحركة للشؤون العسكرية، كما أن العديد من تصريحات لبيب النحاس كانت تواجه بحملات إعلامية قوية.
وفوجئ قادة هذا التيار بالتمديد للمصري لثلاثة اشهر عند انتهاء ولايته في شهر أيلول الماضي، واستشعروا أن هناك جهات إقليمية ودولية تمارس ضغوطاً على الحركة من أجل بقاء قيادتها بيد التيار المميّع وعدم انتقالها إلى تيارهم، فاتفقوا في ما بينهم على إجهاض اي محاولة من هذا النوع، ولو كان ثمن ذلك شق صف الحركة وتقسيمها.
وما أثار ريبة هؤلاء أن الخيار وقع على ابي عمار العمر لقيادة الحركة. فالرجل ليس من مؤسسي الحركة، بل هو بالأصل من «صقور الشام» التي انشقت عن الحركة مؤخراً، لكن العمر قرر البقاء، كما أنه ذو ميول إخوانية ومدعوم من قطر وتركيا، ما يعني أنه سيسير بالنهج السابق ذاته ما لم يكن أكثر.
وقد حاول قادة «التيار القاعدي» خلال عشرة اجتماعات عقدتها قيادة الحركة في الأسابيع الماضية منع تولي العمر منصب القائد العام، طارحين في مقابله اسم كل من أبي جابر الشيخ وابي صالح طحان، غير أن جميع الاجتماعات فشلت في التوصل إلى اتفاق على تعيين القائد العام.
وبما أن خيار العمر يحوز أغلبية ثلاثة عشر صوتا مقابل ثمانية اصوات، فقد قرر هؤلاء تعليق عملهم احتجاجاً على تعيين العمر الذي لم يتخذ صفة رسمية حتى الآن، وبالتالي احتجاجاً على استمرار سير الحركة بالطريق نفسه الذي شقه المصري من قبل.
وقد يكون التحدي الذي يواجه الحركة اليوم أقوى من التحدي الذي واجهته إبان الاغتيال الجماعي لقادتها في شهر أيلول 2014، لأن الاغتيال حرك العواطف وجمع المواقف على قاعدة الحزن المشترك والشعور بالخطر الداهم. أما تحدي اليوم، الناشئ عن انقسام «مجلس الشورى»، فهو في جزء منه اغتيالٌ معنوي لقادة «أحرار الشام»، لكنه لن يحرك العواطف، بل سيزيد مشاعر الحقد الدفينة ودوافع التنافس غير الشريف، وبالتالي حتى لو تجاوزت الحركة هذا القطوع، فإنها ستجد نفسها قريباً أمام تحديات مصيرية عصية على التجاوز.
(السفير)