اللواء وشقيقاته د.أريج يعقوب العساف
في غَفلة من الزمان كان العدوّ التركيّ على أرضنا، طالباً سرقة الحياة من جبين الوطن القويّ قوّة صخوره، والصامد صمود جباله. هؤلاء مجموعة من البدو الرحّل، خرجت من غرب الصين، وأسست مملكة الخزر، التي أقيمت بين البحر الأسود، وبحر قزوين، سنة ستمائة للميلاد، مُعتمدة سياسة الإبادة والحرق والسبي وتقطيع الرؤوس… إلخ. ثم جاء الأتراكُ إلى سوريا عام (1516)، لا لإعمارها، بل لإعادة صياغة التاريخ، كي تمحو أمجادَه الماضيات من صفحاته .
شَرُّ بليّتنا اليوم هم الجهلاء، الذين مازالوا ينظرون إلى تركية العثمانية، على أنها دولة إسلامية صديقة، رغم كلّ ما فعلته وسرقته من اقتصاد سوريا، وما عملته لتدميرها وأختها العراق ثم مصر…إلخ، ولحضراتكم الحكاية من بدايتها:
بموجب اتفاقية أنقرة عام (1920) بين فرنسا من جهة، والحكومة التركية من جهة أخرى، تمّ اعتراف تركيا بالانتداب الفرنسي على سوريا، وفي عام (1923) تبنّت دولُ الحلفاء: (بريطانيا، فرنسا، روسيا، إيرلندا) الاتفاق الثنائي في معاهدة (لوزان)، كي ترسمَ خطاً جديداً للحدود بين تركية من جهة، وسوريا التي احتلتها فرنسا من جهة أخرى، وبين تركية من جهة والعراق التي احتلتها بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى من جهة أخرى.
هذا الاتفاق قدّم المناطق الواقعة في القسم الشمالي من سوريا هدية لتركية، وهي ابتداءً من الغرب إلى الشرق: (مرسين، طرسوس، كيليكيا، أضنة، مِرعش، عِنتاب، كلّس، البيرة، أورفة، حرّان، ديار بكر، ماردين، نصيبين، جزيرة ابن عمر). تُقدّر مساحة هذه المناطق بما يزيد عن ثمانية عشر ألف كيلو مترٍ مربعٍ، أُعطيَت لتركية من الأرض السورية، علماً أنّ هذه الأرض مَلَكَتْها وسكنَتْها منذ القدم قبائلُ عربية عديدة أهمها: قبيلة (بني بكر بن وائل) حيث نُسِبَتْ ديار بكر إليها، وقبيلة (تغلب)، وقبيلة (عِنِزَة)، وكل هذه القبائل تنتمي إلى قبيلة (ربيعة).
هذه الأرض جميعها منطقة عربية سورية، حماها العرب في ماضيهم من الروم البيزنطيين، ومازالَ (سيف الدولة الحمداني) يغفو في قبره في (ديار بكر) فوق مِخدّة من تراب الوطن، جُمِعَ ترابُها من غبار المعارك العالق على ثياب سيف الدولة في حروبه المتواليات ضد الروم، ثم عُجِنَ هذا الغبار، فغدا وسادة غفا فوقَها (قريرَ العينِ هانية).
وعلى هذه الأرض عاش أجدادنا، يملأ نفوسَهم جميلُ الذِكر، وحسْنُ الأُحدوثة، فَحَلا فيهم الوصفُ، ورقّتِ الكلماتُ في التعبير عن الحزن الطاغي، بعد أن اقتُطِعَت تلك الديارُ عن الأرض السورية.
مع تأزّم الوضع الدولي، وتهديد ألمانيا النازيّة في الحرب العالمية الثانية ضدّ الحلفاء وهم (بريطانيا، فرنسا، بولندا، استراليا)، رغبتْ فرنسا في استمالة تركية إلى جانبها ضدّ الخطر الألماني، لذلك اتفقت فرنسا مع تركية مُدّعيةً أنّ لواء اسكندرون يؤلّفُ كياناً مستقلاً عن سوريا، ثم أحيلَت القضية إلى عُصبة الأمم، فاتخذتْ طابَعاً دولياً، واتخذَ الحلُ المُبَيّتُ بين فرنسا وتركية صِبغةً شرعية. لذلك انسحبت الجيوش الفرنسية من اللواء بعد أن سلّمتْه فرنسا لقمة سائغة للأتراك، بموجب اتفاقية (أنقرة الثانية)، (23 حزيران 1939) خارقة قوانين الانتداب التي تستوجب المحافظة على أرض الدولة الخاضعة للانتداب ورغم ذلك فإن فرنسا قدّمتْ كلَّ هذه المنطقة إلى تركية في اتفاقية (أنقرة الثانية).
لقد علّمتنا الأيام أن التجارب الأليمة كالنار تنفي عن الحديد خُبثَه، وتُخرِجُه فولاذاً ليكون أقوى مما كان، هكذا نحن. عربُ اللواء بذلوا وما زالوا يبذلون كلَّ ما بوسعهم للدفاع عن عروبتهم، فقد قادت (عُصبة العمل القومي) الكفاحَ الوطنيّ، وحركة (القومية العربية في اللواء) بزعامة الأستاذ (زكي الأرسوزي)، وعُرِفت هذه المنظمة بصلابة مواقفها، وتصدّيها لمؤامرات الفرنسيين والأتراك وكلّ المتعاونين معهم، وأصدرتْ جريدة (العروبة)، (1937)، كما أسّست (نادي العروبة) في أنطاكيا واسكندرونة. استطاع زكي الأرسوزي أن يبعث في اللواء حركة وطنية صلبة شعارُها: “العروبة هي وجداننا القومي، عنها تصدرُ مُثُلُنا العليا“.
هذا اللواء سكنَتْه أغلبية عربية كثيرة العدد، عريقة العروبة. ونحن ـ أبناءَ يعرب الشرفاء ـ لن نتخلى عنه ولا عن أية حفنة من تراب أوطاننا المُغتَصَبة لأنّ المُخلِصين من أبناء سوريا لن ينسَوا أوطانهم المأسورة بيد الأغراب، إنهم يؤدّونَ رسالتهم نحوها كما تؤدّي الأزهارُ رسالةَ الفردوس، مُدرِكينَ أنّ الوطنَ لا ينهض إلا بأبنائه الأخيار، كما الشجر لا يُثمر إلا بأغصانه، وأنْ لا وطنَ بلا تضحيةٍ، ولا قيمة للأيام بدون حرية.
عاشت سوريا في امتدادها من جبال طوروس حتى الرمثا على الحدود الأردنية، حُرةً مستقلةً، وعاش كلُ أبناء العروبة سادةً أحراراً.