تباشير عالم جديد بقلم د. بثينة شعبان
بعد انتخاب ترامب حضر في العاصمة الإيرانية وفي يوم واحد وزير الدفاع الصيني الذي وقّع اتفاقيات مع نظيره الإيراني كما حضرت رئيسة برلمان الإتحاد الروسي وعقدت مؤتمراً صحفياً مع نظيرها لاريجاني. هل كانت هذه مجرد مصادفة، التقاء روسيا والصين في إيران، أم كانت إشارة متعمدة يُرادُ لها أن تؤخذ بالحسبان لمن يعمل اليوم على اختيار أركان حكمه ومستشاريه وخطّ سياساته المستقبلية في الولايات المتحدة الأمريكية؟ لقد كان المشهد السياسي معقداً من قبل ولكنه كان مرشحاً للإستمرار بأسلوبه القديم لو قُدّر للسيدة كلينتون أن تقود دفة الرئاسة، ولكن ومع سقوط المنظومة الحاكمة في واشنطن التي أوصلت العالم إلى هذه الفوضى الدموية في العقود الأخيرة، فإن كلّ الاحتمالات واردة مع ترقب استلام منظومة جديدة من المفاهيم والسياسات والأشخاص سدّة الحكم. ولذلك فإن تموضعات جديدة تظهر على الساحة كما يتضح تعزيز علاقات كان من المعروف أنها جيدة فأصبح من الضروري اليوم أن تظهر متانتها وحيويتها وشراكتها الحقيقية كي تتم رؤيتها ويحسب لها حساب في موازين القوى الجديدة.
سوف نرى في المستقبل القريب اصطفافات جديدة وقد لا تكون أحادية المسار أو واضحة المعالم بسبب التعقيدات والتداخلات التي تعتريها. إنّ انشقاق الرئيس الأمريكي المنتخب عن المؤسسات الإعلامية والسياسية التقليدية في الولايات المتحدة هو بحدّ ذاته نتيجة لواقع قائم، وسيكون عاملاً هاماً في خلق واقع سوف تتضح معالمه على مستوى العالم في السنوات القادمة. أما الواقع القائم في الولايات المتحدة فهو استئثار النخبة الحاكمة وعلى مدى عقود بالمال والسلاح والإعلام وإدارة الإنتخابات بالاعتماد على المموّلين، وبعضهم أجانب، والذين اعتادوا أن يلعبوا الدور الأساس في خطّ السياسات بما أنهم دفعوا ثمنها سلفاً، بعيداً عن مشاعر الناس العاديين وطموحاتهم وآمالهم وأحلامهم. وقد وُصف فوز ترامب بأنه هزيمة للنخب الأمريكية التي تعيش على الساحلين الغربي والشرقي وفي الجامعات ومراكز الأبحاث وانتصارٌ للمواطن الأمريكي العادي الذي يريد للسياسة أن تركّز عليه وعلى لقمة عيشه وعلى تعليم أبنائه بعيداً عن مؤسسة هوليوود والسي إن إن والنيويورك تايمز والواشنطن بوست. لقد لاحظنا وبشكل خاص منذ أحداث الحادي عشر من أيلول في عام 2001، وبشكل أخصّ منذ عزو العراق عام 2003، أن المؤسسة السياسية والإعلامية والعسكرية والبحثية الأمريكية تتحدث بصوت واحد إذ أجمعت كلها جميعاً على ضرورة عزو العراق رغم الإفتقار إلى أية مبررات توجب هذا الغزو، كما أجمعت كلها جميعاً على قصف ليبيا وتبيّن لاحقاً أن هذا القصف قد ألحق الدمار والتشظيّ ببلد عضو في الأمم المتحدة وأن أياً من وسائل الإعلام العملاقة لم يتساءل بعد ذلك لماذا عوقب الشعب العراقي والليبي بهذه الطريقة ولماذا لم تتم محاسبة أي من هؤلاء الذين اتخذوا القرار بهذا التدمير؟ أما خلال السنوات الأخيرة فإن حرب النخبة الأمريكية الحاكمة على العرب التي اتخذت اسم الربيع العربي قد أوضحت للجميع أن الإعلام الغربي اعتمد أدواته المخابراتية الجزيرة والعربية والبي بي سي وفرانس 24 وشهود العيان مصادر لإعلامه، وقاد بذلك حملة تضليل للشعوب الغربية عبر الأطلسي، واتخذت الحكومات مواقف تنسجم مع هذا التضليل وتتناقض تناقضاً صارخاً مع الوقائع على الأرض ومع كلّ ما تراه الأعين وتسمعه الآذان في مواقع الأحداث.
إذا كان فوز ترامب يمثّل بأحد أوجهه نتيجة كل هذه التراكمات وغيرها التي لا يتسع الحديث لذكرها هنا فإن انتخابه سيكون أيضاً سبباً لتعزيز معطيات في دول أوربية وغير أوربية بدأت تنضج، ولا شكّ أنها ستؤتي أُكلها في المستقبل غير البعيد. فهاهي مؤشرات الانتخابات الأوروبية القادمة في دول أوربية عدّة توحي بأن أوروبا التي عرفناها الأمس واليوم لن تكون هي ذاتها أووربا التي سنراها غداً وأن الشعوب الأوربية قد ضاقت ذرعاً بسياسات حكوماتها التي لا تعبّر عنها أبداً ولا تتقاطع مع متطلباتها وأحلامها وطموحاتها. وقد يتمخض هذا عن إحداث تغيير جذري للعالم الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، وبشكل أخصّ، للعالم الذي عايشناه بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، ألا وهو عالم القطب الواحد والهيمنة الأنكلوسكسونية والغربية على مراكز القرار في العالم. أي أن الحروب التي قادها الغرب من أجل تدمير البلدان العربية الرئيسية وانتهاك سيادتها وميثاق الأمم المتحدة قد تنتهي إلى تشكّل عالم من الشرق والغرب ذي أقطاب متعددة يؤكد أول ما يؤكد فيه على سيادة الدولة الوطنية ونبذ سياسات التفتيت والتجزئة لها ورفض التدخّل في شؤونها. ومن الواضح اليوم أن هذا هو أهم قاسم مشترك بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعدد من القادة المستقبليين في أمريكا وأوروبا. وسيكون لهذا ارتدادات أكيدة على شكل وطبيعة المنظمات الدولية وأدوارها في حياة البلدان سواء في أوقات الحرب أو أوقات السلم. أي أن ما نشهده اليوم هو أفول أشكال التكتلات وسياسات ظنّ البعض في وقت ما أنها أبدية أو أنها لا تقهر، وما نشهده أيضاً هو انبلاج أشكال حكم وسياسات لم يحلم البعض أنها سوف ترى النور بهذه السرعة. المستقبل اليوم هو لهؤلاء الذين يعبّرون عن العزيمة ويبذلون الجهد الفعّال لصياغة مستقبلهم حسب مقتضيات هويتهم وآمال وطموحات شعوبهم. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الأمم والبلدان أيضاً وهو أن “ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى”.