بقلم ناصر قنديل

الرئيس والبصمة

ناصر قنديل

يعرف كلّ متابع للمسيرة المليئة بالأحداث والمواقف والمواجهات والمعارك للرئيس العماد ميشال عون، أنه يسجل بوصوله لرئاسة الجمهورية تتويجاً لهذه المسيرة الزاخرة، وأنه يملك في سيرته ما يؤهّله ويلقي عليه مسؤولية في آن، أن يكون رئيساً مختلفاً، وليس بين رؤساء لبنان الذين سبقوه من حمل سيرة كسيرته، أشبعها بالتضحيات والمواقف والمواجهات والتحالفات والعناوين الكبرى والقضايا العقائدية والمشاريع الاستراتيجية، والمسكونة كلها بقدر لا يُخفى من الثقافة ومن الفلسفة ومن الاستراتيجية، ما يمنع الرئيس ميشال عون أن يكون رئيساً عادياً في تاريخ لبنان. وهذا يعني أنّ الرئيس الذي سيدير مسؤولياته تحت سقف الدستور من جهة، وفي قلب حقول ألغام سياسية متعدّدة داخلياً وإقليمياً ودولياً، من جهة مقابلة، معنيّ بقوة من جهة ثالثة بالبحث عن كيف سيذكره التاريخ، ومسكون حكماً بهاجس البصمة التي ستكون صورته مرتبطة بها لسنوات وعقود وربما قرون مقبلة .

يقول الرئيس بشار الأسد الذي تناولته الآلات العملاقة المهيمنة على الإعلام العالمي الغربي والعربي ضمن حملة ممنهجة لشيطنة صورته، أنه لا يطلب ويتمنّى سوى أن ينصفه التاريخ فيذكره كأحد أبرز الذين قاتلوا الإرهاب وقدّموا خدمة جليلة للإنسانية بتجنيبها تجذّر هذه الآفة وتحكّمها بمصير البشرية. ويبدو من مسار وأداء وسلوك قائد المقاومة السيد حسن نصرالله أنه قد فاز بالمكانة التي يذكره فيها التاريخ كصانع للتحوّلات الكبرى في الشرق الأوسط سواء في موازين الصراع العربي ــ «الإسرائيلي»، أو في موازين الحرب على الإرهاب. ويبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد انتزع ما سيقوله عنه التاريخ كقيصر روسيا الجديد الذي ردّ لها الاعتبار كدولة عظمى، في المقابل يبدو الرئيس التركي رجب أردوغان كخائب في نيل ما أراد من التاريخ كوارث مجدّد للسلطنة العثمانية، كما يبدو الرئيس الأميركي باراك أوباما كفاشل في حجز مقعد بين الرؤساء التاريخيين لبلاده رغم محاولته تقليد إبراهام لنكولن والاقتداء بسيرته. والنجاح في اللعب مع التاريخ ليس بالأمر السهل، ولا يكفيه حسن النيات ولا حسن السيرة، بل يتوقف على حسن التصرف والتدبر.

لا يحجز التاريخ للخالدين كرسياً متعدّد الألقاب، فلا مكان لديه للترف، ولا تتسع الكلمات التي تحفر على الكرسي لأكثر من صفة، تحدّدها البصمة التي ينجح القادة بتحديدها بدقة، وبإخضاع سائر وجوه أدائهم لحسابها، دون إهمال هذه الوجوه. فالبصمة حاكمة، وبوصلة لها وجهة واحدة، وفي حالة الرئيس عون المؤهّل أكثر من كلّ أسلافه لحجز هذا المقعد، يتوقف الأمر على قدرته إقامة التوازن الصعب، في طريق مليء بالألغام والمغريات والمخاطر، بين المكان لرئيس جمهورية وما فيه من فرص فوز للفريق الذي يقوده، وحصص ومناصب ومكاسب ومغانم، والمكانة التي يحتلّها في الوجدان كزعيم يتطلّع نحو التاريخ، وتوازن المكان والمكانة صعب ومعقد مثله التوازن بين نجاحين، نجاح الوعد بالتغيير، ونجاح العهد بحسابات الفريق والحزب والشعبوية، ومقتضيات كلّ منهما تسير بعكس مقتضيات الآخر، وتوازن العلاقة بين نجاح العهد القائم على التسويات والوعد القائم على المبدئيات هي الأشدّ صعوبة، والتوازن الثالث المباشر بين حلفين يحتاجهما في عدّته الرئاسية، الحلف الرئاسي الذي مكّنه من توفير نصاب الفوز وفيه فريقان لا يشبهانه في السياسة هما القوات اللبنانية وتيار المستقبل، والحلف السياسي، وفيه حلفاء تسبّبوا له بالألم ولجمهوره بالتوتر والغضب في مواقفهم منه كخيار رئاسي، الأبرز بينهم إشكالية علاقته بحركة أمل وتيار المردة. والتوازن هنا مسؤولية غير عاطفية وغير مصلحية، وعاطفية ومصلحية في آن واحد، وهنا صعوبتها.

الرئيس العماد ميشال عون معني باختيار واقعي دقيق للبصمة التي يريد لها أن تشبهه، ويريد لنفسه أن يحققها، ويقينه أنّ ذلك ممكن، وأنها القيمة المضافة التي يتركها لبلده وناسه وتاريخه، ومنطقته، وأمامه فرص مَن سبقوه من الذين تركوا بصمة بين الرؤساء، ثلاثة، الرئيس بشارة الخوري والرئيس فؤاد شهاب، والرئيس إميل لحود، وقد وهب كلّ منهم للبصمة التي تركها، وفي ظروف مناسبة، حتى تغلّبت على وجوه أدائه الأخرى وبقيت هي الذكرى الملاصقة لسيرته، فالرئيس بشارة الخوري صانع معادلتي الميثاق الذي مهما تبدّلت صيغ النظام السياسي اللبناني على قاعدة التمثيل الطائفي فلن تتيح لسواه تخطّيه، في قضيتين هما أساس الميثاق، الأولى مقايضة الاستقلال عن فرنسا بالتخلي عن الوحدة مع سورية، وبينهما نهائية الكيان اللبناني، والثانية مكانة مميّزة للمسيحيين في النظام السياسي تتجسّد بالتركيب النيابي والوظيفي والصلاحيات الرئاسية معاً مقابل موقع ودور ريادي للبنان في رفع لواء قضايا العالمين العربي والإسلامي، ومهما قيل للعماد عون أنه سيستطيع تخطي سقف بشارة الخوري في هذه البصمة سيكون ذلك مستحيلاً، فالحفاظ على جوهر الميثاق مع تصحيح الخلل في الصيغة سيكون السقف الداخلي الممكن من زاوية مسيحية صرفة، وسيكون الإصرار على الأكثر دخولاً في مواجهات تفسد العهد والوعد معاً أما الرئيس فؤاد شهاب فقد تمكّن مزوّداً بعزيمة لا تقلّ عنها عزيمة العماد عون على بناء مؤسسات الدولة الإصلاحية، لكنه جاء مستقوياً بثلاث لا تتوفر للعماد عون، الأولى صعود مهيمن لزعامة جمال عبد الناصر عربياً، والثانية صلاحيات كاملة لرئيس الجمهورية كممسك منفرد بالسلطة التنفيذية يعاونه وزراء يعيّنهم ويختار من بينهم رئيساً لهم، والثالثة تحرّره من موجبات الزعامة الشعبية، كقائد فرد لا قاعدة شعبية تدين له بالولاء ويدين لها بالحضور والقوة. وكما تحرّر من أعباء الشعبية والشعبوية تحرّر من موجبات الحسابات الإقليمية والدولية، وتحرّر من تسويات الداخل للتمكن من ممارسة الحكم، أما الرئيس إميل لحود فقد جعل قضيته المركزية رعاية خيار المقاومة حتى النصر، شريكاً كاملاً يحرق السفن وراءه، لا يعير بالاً للعلاقات الدولية والإقليمية ولا للشعبية، ولا للمكانة بين الزعماء المسيحيين ومؤسساتهم السياسية والدينية والحزبية، مستقوياً بلحظة تاريخية نادرة تزاوج فيها انتصار المقاومة في الجنوب مع صعود الرئيس بشار الأسد بقوة إلى سدة الرئاسة في سورية، وتجيير مصادر القوة اللازمة لنجاح مسار الرئيس لحود بما له ولها من دور في لبنان.

عندما حاول الرئيس بشارة الخوري الذهاب للأبعد فشل، ومثله الرئيس فؤاد شهاب، ومثلهما الرئيس إميل لحود، ومهما قيل للرئيس ميشال عون أنه قادر على تخطي أيّ من الرؤساء الثلاثة بالبصمة التي ميّزت كلاً منهم ففي ذلك مبالغة ومجاملة ومداهنة، ومجافاة للحقيقة، فالمسار الرئاسي لن يتيح للرئيس العماد عون لبنانياً سوى إدارة دفته بين التوازنات الإقليمية الصعبة، ومسيحياً سوى إدارة الدفة في قلب التسويات الصعبة، والمسار الإصلاحي للرئيس عون سيكون محكوماً بفعل أفضل الممكن، والرهان على مراكمة الإنجاز البطيء والثابت ولكن الصعب، والمسار الداعم للمقاومة ايضاً سيكون حماية ووقاية من الخلف وليس تصدّراً للمشهد بالصدور العارية على الطريق التي سار عليها الرئيس لحود، ليصير السؤال عن البصمة مشروعاً وضرورياً!

– البصمة التي يحتاجها لبنان من الرئيس العماد، ولا يمكن لسواه أن يصنعها، هي وضع نظامه السياسي خارج دورة الخراب المنتظمة التي تأخذه للحرب الأهلية كلّ ربع قرن وتبقيه مشرعاً على التدخلات الخارجية. واللحظة مؤاتية وموازين القوى مفتوحة عليها، وتشكل بذاتها الخدمة الجلى للوجود المسيحي في الشرق الذي لن تجلب له المسيحوية السلطوية إلا نفور المسلمين وعدائيتهم، فرجاء الخلاص هنا أهمّ من بازار المزايدة بالمكاسب والمناصب الذي يفتحه الآخرون بوجهه. وهذه مهمة القادة التاريخيين، عصرنة الدولة والمجتمع هي الوصفة المسيحية والإصلاحية والمقاومة في آن، عصرنة يقدّمها لبنان لكيانات المنطقة المقبلة على تسويات مشابهة، عصرنة تحمي المجتمعات من العصبيات، وتقطع دابر الفتن، وتعيد للتنافس السياسي روح الفكر والبرامج، وتعيد تشكيل المشهد السياسي على المديين المتوسط والطويل على أساس الولاءات الحزبية العابرة للطوائف، بدلاً من العصبيات والهويات القاتلة، التي تقدّم لمريديها وصفة لحس المبرد فيستلذون بطعم دمائهم وهم لا يعلمون. والكلمة المفتاح يعرفها جيداً ويؤمن بها كثيراً الرئيس العماد وهي قانون للانتخابات النيابية يعتمد النسبية، بها يدخل الرئيس التاريخ ويدخل لبنان معه إلى العصر.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى