الشمال السوري بين «الأردوغانية» و«الطالبانية» واحتمال الصدام عبد الله سليمان علي
اكتسحت «العقيدة الأردوغانية» مناطق سيطرة «درع الفرات» في ريف حلب الشمالي، فيما لا تزال محافظة إدلب تئنّ على وقع صراعٍ مُركّب يدور بين الفصائل المسلحة بشأنها، وسط غلبةٍ واضحة لـ «العقيدة الطالبانية»، برغم كلِّ محاولات تدوير الزوايا وتلقيح العقائد.
ولا يغيب دور الولايات المتحدة رغم استتاره وراء بروز الدور التركي، لكنه يكتفي حالياً برسم الخطوط الحمراء ومحاولة إدارة التوازن بين حليفيه المتخاصمين، الأكراد وتركيا، مع ترسيخ سياسة قديمة ـ جديدة، مفادها استمرار الرهان على إمكان تغيير سلوك «جبهة النصرة» عبر استهداف كبار قادتها من «المهاجرين» (المقاتلين الأجانب).
ويضع هذا الواقع الشمال السوري أمام تحدٍّ كبير لأن النموذجين «الأردوغاني» و «الطالباني» اللذين يسودان به في هذه المرحلة، ومهما كانت القواسم المشتركة بينهما، يقفان من بعضهما على طرفي نقيض بخصوص العديد من القضايا الجوهرية. وهذا التناقض يُرجح أن الاصطدام بين النموذجين آتٍ لا محالة، خصوصاً في ظل التطورات الاقليمية والدولية، وعلى رأسها مجيء إدارة أميركية جديدة قد تكون لديها نظرة مختلفة للتعامل مع ملفات شائكة، مثل مصير «جبهة النصرة».
ولا يقتصر الاكتساح «الأردوغاني» على مظاهر السيطرة على الأرض في مناطق شاسعة من الشريط الحدودي، وصولاً إلى تخوم مدينة الباب، فحسب، بل هنالك مظاهر أخرى لا تقل أهميةً، منها إنشاء غرفة عمليات عسكرية تركية حلّت محل غرفة عمليات «الموم» التي أوقفت نشاطها بشكل شبه كامل في ريف حلب الشمالي، فيما لا يزال نشاطها مستمراً في مناطق أخرى، من ضمنها مدينة حلب. وفي هذا السياق علمت «السفير» من مصادر خاصة أنه جرى تعيين الشيخ والقيادي السابق في «الجيش الحر» رامي الدالاتي مستشاراً عسكرياً لهذه الغرفة، ما يعكس توجهاَ تركياً لمحاولة استقطاب أكبر عدد من الفصائل المسلحة على اختلاف توجهاتها، إسلامية كانت أم غير إسلامية، كما يعكس رغبة تركية في عدم إغلاق باب التفاهمات والحلول السياسية، جنباً إلى جنب مع استمرار الضغط العسكري.
وتحدثت «السفير» مع الدالاتي، فأجاب لدى سؤاله حول تعيينه في هذا المنصب بأنه يعتبر نفسه «شخصية مقبولة بسبب قربه من الاسلاميين والجيش الحر وإيمانه بالحل السياسي».
ومن بين مظاهر اكتساح العقيدة «الأردوغانية» أيضاً، أن كل الفصائل المسلحة المحسوبة على «البنتاغون»، وأهمها «الحمزة» و«المعتصم» و«اللواء 51»، اصبحت تعمل تحت القيادة التركية، وهو ما أكده الدالاتي مشيراً إلى أنه لم يعد هناك فصائل للبنتاغون، وأن البنتاغون لم يعد قادراً على ممارسة نفوذه السابق على هذه الفصائل. وهذا أمر طبيعي باعتباره أحد نتائج وقف نشاط «الموم» في ريف حلب الشمالي.
وقد يكون من أهم هذه المظاهر، على المدى البعيد، هو أن تياراً واسعاً ووازناً في «حركة أحرار الشام الاسلامية» المحسوبة على تركيا بشكل أو بآخر، حسم أمره، واتجه إلى تبنّي نظام الحكم التركي كنظامٍ يطمح إلى تحقيقه في سوريا «بعد التحرير» حسب أدبيات الحركة. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تكون الدراسة الأولى التي تصدر عن مركز دراسات «أحرار الشام» الذي يشرف عليه المصري أبو الفتح الفرغلي هي دراسة حول نظام الحكم في تركيا وخصائصه ومزاياه.
على المقلب الآخر، فإن الأمور في محافظة إدلب تبدو مختلفة جذرياً، فليس هناك طغيان للعقيدة «الأردوغانية»، حيث لا تزال «القاعدة» بتحولاتها وتجلياتها المتعددة والمختلفة تلعب الدور الأكبر في المحافظة التي تضافرت عوامل داخلية وخارجية عدة جعلتها تبدو كأنها «ولاية أفغانية» تسود فيها «العقيدة الطالبانية».
فخارجياً، هناك من جهة التوجه الروسي لمحاربة «جبهة النصرة» في معقلها في إدلب. وكان من اللافت أن موسكو وضعت هذه المحافظة على قائمة المناطق التي ستجري فيها العملية الواسعة المرتقبة. ومن جهة أخرى، هناك القرار الأميركي بتفعيل استهداف قادة «النصرة»، وخاصةً المرتبطين مع تنظيم «القاعدة». أما داخلياً فهناك رفض أو عدم قدرة «النصرة» على ترجمة فكّ ارتباطها مع «القاعدة» إلى واقع عملي، ما جعلها تبقى اسيرة منظومة العقائد والسياسات ذاتها التي تمّ تصنيفها بموجبها على قائمة الارهاب الدولي، وهي المنظومة ذاتها التي لا تزال ترفع الحواجز بينها وبين الفصائل الأخرى، خصوصاً «فصائل درع الفرات»، بل ومع اي فصيل يُظهر أي قدر من الاختلاف مع توجهاتها، وقد كان الخلاف مع «مقاتلي داريا» مؤخراً خير مثال على ذلك.
ومن جهة ثانية، هناك التناقضات المستمرة داخل حركة «أحرار الشام» وعدم قدرة الحركة على حسم خياراتها الكبرى، لا سيما بخصوص «العقلية الوطنية» كما قال الدالاتي في معرض رده على أسئلة «السفير». وقد يكون أهم أسباب هذا التردد من قبل «أحرار الشام» هو النظر إلى الأمور على خلفية حسابات تتعلق بموقف «جبهة النصرة». ولذلك يلاحظ أن الحركة في ريف حلب الشمالي تختلف اختلافاً جذرياً عما هي عليه في إدلب.
وقلّل الدالاتي من احتمال حدوث اصطدام مستقبلي بين النموذجين «الأردوغاني» و «الطالباني»، مستنداً إلى أهمية المراجعات التي أجرتها «أحرار الشام»، والتي نقلتها إلى مرحلة «الاعتدال»، وإن كانت في حاجة إلى حسم أمور أخرى برأيه. كذلك نوّه الدالاتي باقتناع «جبهة النصرة» بفكّ ارتباطها مع «القاعدة»، معتبراً ذلك خطوةً نوعية في تاريخ التنظيم، ومشيراً إلى رؤيته بأن «النصرة» لا تمثل «السلفية الجهادية» بنسختها الوهابية أو «الطالبانية»، بل «نحن أمام تشدّد مثقف ومتعلم وله رؤى منفتحة، وهذا يشمل على نحو خاص السوريين ضمن جبهة النصرة».
ويتقاطع كلام الدالاتي مع سياسة أميركية يبدو جلياً أنها تستهدف قيادات «جبهة النصرة» من المقاتلين الأجانب حصراً، إذ حتى عندما يُقتل قياديٌ سوري، فإن واشنطن لا تتبنى مقتله، بل تسارع إلى نفي علاقتها به كما حصل عقب مقتل أبي عمر سراقب، قائد «جيش الفتح» في حلب.
وربما يمكن اعتبار هذا التمييز بين الأجانب والسوريين دليلاً قوياً على أن الولايات المتحدة لم تغيّر سياستها تجاه «النصرة»، وأنّ القرار الذي كُشف عنه مؤخراً حول استهداف قادتها المرتبطين بـ «القاعدة» لا يعدو أن يكون مجرد ترسيخ لسياستها السابقة التي استهدفت خلالها كبار قادة ما كانت تسميه «جماعة خراسان». بعبارة أخرى، فإن واشنطن لا تحارب «جبهة النصرة» بمعنى القتال لإنهائها والقضاء عليها، بل هي تراهن على تغيير سلوكها وسياساتها عبر اغتيال كبار قادة «المقاتلين الأجانب» فيها، مع عدم المساس بمقاتليها لا سيما السوريين، أو معسكراتها أو مستودعات اسلحتها أو مراكز التحكم والقيادة التي تستخدمها، وهي السياسة التي ما زالت تشكل عامل طمأنينة لدى قيادة «النصرة» برغم الخسارة التي يمثلها فقدان كبار قادتها «المهاجرين».
غير أن الاصطدام الذي نفاه الدالاتي أو قلل من فرص حدوثه، يبقى احتمالاً أكثر من وارد، خصوصاً مع وصول إدارة أميركية جديدة إلى البيت الأبيض لديها وجهة نظر مختلفة حول التعامل مع «جبهة النصرة». وهنا ينبغي التساؤل بجدية عن السبب الذي دفع الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى توقيع قرار استهداف قادة «النصرة» بعد انتخاب دونالد ترامب مباشرةً.
ومن المتوقع أن يؤدي انتخاب ترامب إلى دفع «جبهة النصرة» نحو مزيد من التشدد، سواء بخصوص علاقتها مع الفصائل الأخرى، أو بخصوص بعض الملفات الساخنة، ومن أهمها معركة حلب.
وطرحت «السفير» على الدالاتي سؤالاً حول صحة انعقاد اجتماع مؤخراً للفصائل الكبيرة في حلب في أنقرة، وتمخضه عن اتفاق على مطالبة «جبهة النصرة» بالخروج من أحياء حلب الشرقية، فلم ينف ذلك، لكنه استبعد أن توافق «النصرة» على هذا الخروج، مشدداً على أن مطالبتها بالخروج تأتي في سياق «الحديث عن احتمالية هدنة في حلب مستقبلاً، ومشيراً إلى أن «الفصائل لا تزال غير واثقة بإمكانية التزام الايرانيين والميليشيات بالهدنة».
وفي هذا السياق، أكد الدالاتي أن «جيش الفتح لن يجري حلّه نهائياً، بل هو يزداد قبولاً، ويأخذ منحى جيش ممنهج عسكرياً، مع زيادة ما حصل عليه من عتاد خلال الفترة الاخيرة»، مشيراً إلى أن هذا القبول كان أحد دوافع «انضمام فصيل كبير كالزنكي إليه».
وربما يؤكد كلام الدالاتي المعلومات التي تسربت لـ «السفير» حول نية عدد من الفصائل الجديدة الانضمام إلى «جيش الفتح» ليتحول إلى «الصيغة المناسبة» مرحلياً لالتقاء كل التناقضات الايديولوجية بين الفصائل تحت سقف العمل العسكري البحت الذي يمثله هذا الجيش.
(السفير)