تركيا من الباب إلى تلعفر: خطوط التماس والصدام الجديدة محمد نور الدين
يدوس رجب طيب أردوغان بأقصى قوة على دوّاسة بنزين الشاحنة التركية. يُحقّق مكاسب في الداخل والخارج. المُفارقة أنه في لحظة انتهاء، بل انهيار المشروع التركي في المنطقة، يأتي مَن يحييه، إما تواطؤاً أو غفلةً أو سذاجةً أو سوء تقدير. ما يجري في الموصل وشمال سوريا هو النموذج التطبيقي لما يسمى «دراسة حالة» لتقلّبات المشروع التركي في المنطقة.
1 ـ فشلت تركيا في تكتيكاتها السابقة، في الاعتماد على التنظيمات المُسلّحة البديلة لمُحاربة النظامين السوري والعراقي. فبعدما استخدمت أنقرة «داعش»، ولا تزال، في بعض المناطق في سوريا والعراق، وبعدما استخدمت، ولا تزال، «الجيش الحر» والتنظيمات الأخرى في سوريا، رمت بورقة التدخل العسكري المباشر بدءاً من جرابلس وصولاً إلى بعشيقة.
2 ـ لكن هذه الورقة لم يكن ممكناً اللجوء إليها من دون عوامل مساعدة اقليمية ودولية. ولم تكن هذه العوامل متوفّرة في السنوات الأولى للحرب، حيث أن حلفاء تركيا مثل الولايات المتحدة، كما محور سوريا ـ ايران ـ روسيا كان مُعارضاً.
3 ـ فشل المحاولة الانقلابية في تركيا، أحدث انقلاباً في المُعادلات والتموضعات. الولايات المتحدة المُتورّطة في الانقلاب العسكري، اضطرت لتقديم تنازلات لأنقرة، لاسترضائها وتخفيف التوتر في العلاقات الثنائية، والترجمة كانت في الدخول إلى جرابلس.
من جهة ثانية، أثارت «مساهمة» روسيا وإيران، على ما قيل، في إفشال الانقلاب العسكري ارتياحاً في أنقرة، وحسّنت العلاقات معهما، وحينها أطلق الأتراك مواقف ايجابية من الوضع في سوريا، أقنع الروس والإيرانيين بأن تقديم المزيد من «الهدايا» لأردوغان قد يُساهم في تغيير موقفه من النظام السوري. فكان ما سُمّي «غضّ النظر»، والبعض قال إنها «تفاهمات» سمحت لتركيا بالدخول إلى جرابلس.
4 ـ لم يكن الرهان على تغيير في الموقف التركي من النظام السوري، السبب الوحيد لغضّ النظر الروسي ـ الإيراني عن التدخّل التركي العسكري المُباشر في سوريا. كان هناك هدف آخر، هو الرغبة في قطع الطريق أمام إقامة الأكراد كياناً لهم على امتداد الحدود السورية مع تركيا. ونظراً لأن الجيش السوري وحلفاءه لا يملكون القدرة على المُواجهة شمالاً مع الأكراد، ومن خلفهم الأميركيين، كان «تكليف» الجيش التركي هو الحلّ.
5 ـ على الرغم من كل التبريرات السياسية والعسكرية، والتي أتاحت دخول الجيش التركي وتمدّده إلى عتبة الباب، فإن تقديرات مُحور المُمانعة لم تكن دقيقة على الأقل في البعد السياسي من المسألة.
لم يتحرّك الأكراد عملياً إلا في نهاية العام 2012 ومطلع العام 2013. وبعدما لم تصدر إشارات على إمكانية التفاهم على أرضية مُشتركة مع دمشق، في المعركة ضدّ المُعارضات المدعومة من تركيا ودول إقليمية أخرى، كانت الولايات المتحدة تتلقّف الكرة الكردية وتلعب بها حتى الآن. خروجُ المُكوّن الكردي في سوريا من أن يكون شريكاً في المعركة مع الجيش السوري كان خطأً استراتيجياً ربما لم يفت الأوان لاستدراكه على الرغم من الشراكة الأميركية ـ الكردية. لأن أكراد سوريا يبقون في النهاية جزءاً من المجتمع السوري، وهم يرون بأمّ العين أن واشنطن تضحي بهم سواءً طوعاً أم كراهية تحت ضغط الظروف. بطبيعة الحال، العودة إلى التواصل والشراكة بين دمشق والأكراد، ليس بالسهولة بعد كل هذه المُتغيّرات. لكن وصد الأبواب ليس خياراً صائباً من كلا الطرفين خصوصاً أن التهديد التركي يطالهما معاً.
6 ـ إن غضّ النظر أو التفاهم مع تركيا من أجل كسر «الكوريدور» الكردي فقط، يعكس سوء تقدير من جانب روسيا وإيران. فالمطامع التركية في سوريا ليست مرتبطة حصراً بالعامل الكردي. لقد تدخّلت تركيا وسعت إلى إسقاط النظام السوري منذ اللحظة الأولى للأزمة، حين لم يكن هناك أي شيء اسمه «عامل كردي» و»قوات حماية كردية». يعني أن عمق التطلع التركي ليس مرتبطاً بالأكراد. وبالتالي، فإن انجاز الأتراك لمهمة طرد الأكراد من شمال حلب، ومنع وصل عين العرب (كوباني) بعفرين لن ينهي مهمتهم في سوريا. بعد أن يحتلوا الباب، ومن بعدها، ربما في اتجاه الفرات شرقاً وعفرين غرباً، سوف يرمي الأتراك ورقة استكمال تطهير الشمال السوري شرق الفرات من قوات الحماية الكردية في (كوباني) وتل أبيض والقامشلي كما عفرين غرباً. ولا نغفل مُشاركتهم في معركة الرقّة الأسهل لجهة توفّر العوامل السياسية للمشاركة العسكرية، اكثر من مشاركتهم في معركة الموصل حيث أخفقوا في المشاركة. وهذا كله بالطبع يتطلّب وقتاً طويلاً قد يمتد لسنوات.
7 ـ ومن ثم يعود الأتراك إلى هدفهم الأصلي وهو استمرار العمل على تحقيق أهدافهم المُتّصلة بالنظام السوري أو بالتسوية المُقبلة المرتبطة بمستقبل النظام السياسي وحدود النفوذ في سوريا وفي شمالها تحديداً.
وما كان هذا ممكناً لولا التمدّد العسكري في الجغرافيا السورية. ولا يُعتقد أن المفاوضات مع تركيا في حال حانت تلك اللحظة، ستكون سهلة في ظلّ المطامع التاريخية لتركيا في سوريا، وفي ظلّ الثمن الذي تُريده أنقرة من جراء منعها وصل «الكوريدور» الكردي، وفي ظلّ الحقد المُزمن على الرئيس السوري بشار الأسد، نظراً لإفشاله المشروع التركي في سوريا. لذا، فإن أحداً لا يُمكن أن يتوقّع مآل تطوّر الأمور حينها. لكن شيئاً ثابتاً، وهو أن تمركز الجيش التركي على الأرض في الداخل السوري، كان غلطة استراتيجية من جانب محور الممانعة لا يعرف كيف يمكنه أن يتجاوزها ويُصحّحها، وتحتاج إلى إعادة النظر بكل استراتيجية التعامل مع تركيا من كل جوانبها السياسية والاقتصادية والعسكرية، بعيداً عن كل التبريرات الإيديولوجية أحياناً التي يُطلقها البعض في بعض دول محور الممانعة. فتركيا، التي تستعيد موروثاً تاريخياً عمره مئة سنة، لن تُوفّر وسيلة وذريعة للاحتفاظ بما تُحقّقه على الأرض في سوريا من أجل البقاء هناك وعدم تكرار «هزيمة لوزان» على ما يقولون، وبالتالي العودة إلى حدود الميثاق الملي في العام 1920. وفي ظلّ سلطة شبقة للسلطة والتوسّع مثل السلطة الحالية في تركيا، ليس من سقوف للمطامع التركية وليس من حدود للتمدّد العسكري البرّي الحالي ما دامت الظروف تسمح بذلك.
& & &
المواقف التركية مما يجري في الموصل هي الوجه الآخر للنهم التركي اللامتناهي.
عسكرَ الأتراك في بعشيقة. لم يدْعهم احد، وهم وسّعوا انتشارهم في عشرات النقاط في شمال العراق لا سيما في مناطق كردستان العراق. العداء المُشترك لأردوغان ومسعود البرزاني لعبدالله أوجلان وحزب «العمال الكردستاني» يُسهّل على الأتراك مهمتهم. لكن المسؤولية في النهاية تقع على عاتق الحكومة المركزية. فحكومة إقليم كردستان لا يحقّ لها استدعاء قوات أجنبية إلى الإقليم. ووجود الجنود الأتراك في هذه المناطق، انتهاك للسيادة العراقية واحتلال موصوف. استفاقت الحكومة المركزية مؤخراً على هذا الوجود. السكوت عن الدخول التركي قبل سنتين إلى بعشيقة يُشبه تماماً «غضّ النظر» عن دخولهم إلى جرابلس في عملية «درع الفرات». ولو أتيحت للأتراك الفرصة قبل اليوم لكانوا أعلنوا قيام عملية «درع فرات» عراقية.
تبدو تلعفر هي بيت القصيد اليوم. معركة تركيا اليوم هي مع ايران و «الحشد الشعبي»، كما مع حزب «العمال الكردستاني». ولطالما كانت هي كذلك منذ لحظة إطلاق «داعش» قبل سنتين لاحتلال نصف العراق وصولاً إلى أبواب بغداد. يكفي أن إعلام اردوغان لا يصف الحشد الشعبي سوى بأنه «المنظمة الإرهابية الشيعية» لتدرك حجم التهديد التركي لتلعفر والعراق، والهدف الحقيقي الذي تحضر نفسها له. تريد تركيا اليوم «درع فرات» آخر في العراق. حشود الآليات والدبابات بالمئات على الحدود في مقابل تلعفر في سيلوبي. وهي تُنذر بأن دخول «الحشد الشعبي» إلى تلعفر يعني تقدّم القوات التركية إلى هناك لمنع مثل هذا التطور. التساؤل هو هل سيدخل «الحشد الشعبي» تلعفر، وهو حقّ من حقوقه ما دام بإمرة الحكومة المركزية؟ هل ستتدخل تركيا قبل دخول الحشد تلعفر؟ أم ستتقدّم لتحتلّ ريف تلعفر، بحيث يكون الحشد في المدينة والقوات التركية في محيطها؟ أم ستتقدّم مباشرة إلى جبل سنجار واحتلاله لمنع تحوّله إلى قاعدة لـ «حزب العمال الكردستاني»، كما لمنع تواصل «الحشد الشعبي» مع سوريا كما يُصرّح بعض مسؤوليه؟
إن الرغبة التركية جامحة في الدخول البري إلى العراق وتثبيت موطئ قدم كما فعلت في سوريا. وهي عندها القدرة العسكرية على ذلك واحتمالات ذلك كبيرة. لكن في المقابل، هل تتجرأ تركيا على الدخول في صدام مباشر مع قوات «الحشد الشعبي»؟ وهل تملك القدرة على تحمل عواقب مثل هذا الصدام مع الحشد، وبالتالي مع إيران، علماً أنها تفتقر الى كل المُبرّرات، كما لا تحظى، حتى الآن على الأٌقل، بأي «غضّ نظر» أو «تفاهم» من الجانب العراقي؟ ليست الأمور مُقفلة على أي احتمال، والثابت أن تركيا راغبة جداً في تكرار عملية سوريا. لكن هل يقف العراقيون وقفة واحدة، ويمنعون تكرار خطأ جرابلس في العراق، ويدفعون شاحنة اردوغان الفاقدة للمكابح للاصطدام بحائط أوهامه ومطامعه؟ هو الذي يتطلّع اليوم ليكون رئيساً ـ سلطاناً حتى العام 2030، ليمضي في السلطة 28 عاماً في بلد الديموقراطية، وهو الذي لم يُوفّر رئيساً وملكاً إلا ودعاه، باسم الديموقراطية، للتنحي؟
(السفير)