أوروبا أمام ترامب والنار السورية: أنياب عسكرية لـ«الاستقلال» عن واشنطن وسيم ابراهيم
يُثبت الاتحاد الأوروبي، مُجدداً، أنه تكتل تدفعه الأزمات. أي خطوة مهمة، غير اعتيادية، يُساورها التردّد، تصير ممكنة فقط حينما يتعرّض لأزمة.
كان ذلك الحال مع الأزمة المالية، التي حطّمت تحفّظات الرافضين لمركزية أوروبية، باتت الآن تراقب وتشرف على سياسات مالية موحدّة وتُراقب موازنات الدول. الحال ذاتها تتكرّر الآن مع الحديث عن «أزمة أمنية»، كما ردّدت بروكسل أخيراً، سبّبتها مجموعة عوامل توّجها انتخاب دونالد ترامب رئيساً لأميركا. هذه الأزمة دفعت الأوروبيين لتحرّك تجنّبوه لعقود: المضي لاتحاد دفاعي وأمني، تحت عنوان «الاستقلالية الاستراتيجية». أُفق هذا المسار بناء أنياب عسكرية للتكتل الاقتصادي الأكبر في العالم، بما يُمكّنه من لعب دور وازن على الساحة الدولية، بعدما ترسّخت القناعة بأن القوة الناعمة لن تُحقّق ذلك «الطموح» أو «الحاجة»، مع أمثلة آخرها النموذج السوري.
هذه الانطلاقة الجديدة تأتي تطبيقاً لإحدى الدعائم الرئيسية لـ «الاستراتيجية الدولية»، التي وضعتها الخارجية الأوروبية، لتكون الفاتحة بتبنّي وزراء الدفاع والخارجية للاتحاد الأوروبي أمس خطة عمل بروكسل لسدّ فجوة القوة العسكرية في أوروبا. وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني أكدت، حينما استعرضت خطط التطبيق مؤخراً، أن سدّ هذه الفجوة هو ما يحتاجه التكتل ليكون لاعباً مؤثراً «يزداد الطلب عليه» في «عالم مُتعدّد الأقطاب». أما غير ذلك، برأيها، فالدور الدولي الوازن غير ممكن لأنه «حتى الدول الأوروبية الكبيرة ليست كبيرة (وحدها) بما يكفي في عالم اليوم».
العوامل التي دفعت لهذا الخيار لا تزال تتفاعل: الحروب والصراعات المُحيطة بالقارة وآثارها المُباشرة عليها، قرار بريطانيا الخروج من التكتّل بما يحرمه موقعها الدولي وقدراتها العسكرية، ليتوّجها انتخاب دونالد ترامب الرافض لأن تواصل أميركا دفع فواتير الحماية الأمنية لأوروبا عبر تمويل حلف الأطلسي. خطة السير لإنشاء «الاتحاد الدفاعي» وُضعت قبل الانتخابات الأميركية، بمُباركة مُشتركة من فرنسا وألمانيا، لكن فوز ترامب أعطى المُدافعين عنها حججاً مُفحمة.
رئاسة ترامب تخدم الدافعين لدور دولي أكبر للاتحاد الأوروبي، لكن المجهول المُحيط بها يُواصل إثارة الذعر في أوروبا. الأسباب كثيرة، وجيهة طبعاً، لن يكون آخرها معرفة أن أول شخصية أوروبية التقاها ترامب بعد فوزه هي نايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب «الاستقلال» البريطاني وأحد الوجوه الرئيسية لحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي.
تحت تأثير المجهول والمخاوف، اجتمع وزراء الخارجية الأوروبيون يوم الأحد على العشاء، قُبيل لقائهم أمس في بروكسل مع وزراء الدفاع. كما هو مُتوقّع، لم ترق الفكرة لبعض الدول الأوروبية. الاجتماعات غير العادية، الاستثنائية، تعقد عادة لمُواجهة تهديد وضع مفاجئ وغير حميد، مثل الانقلاب في مصر أو ضمّ روسيا للقرم. دافع الداعون للاجتماع بالقول إنه ليس «استثنائيا»، بل مجرد عشاء. مع ذلك لم تحضر بريطانيا والمجر، عن سبق الإصرار والتصميم. وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون اعتبر الدعوة للاجتماع مُبادرة «غبية» و «هستيريا». المجر لم تحتجّ للتبرير، فتصريحات مسؤوليها لا تزال تحتفل بفوز ترامب، مُذكّرة بأن الأولوية لسياسات مُتشدّدة تجاه اللجوء والهجرة.
من حضروا العشاء خرجوا بمواقف تعتبر أن الرسالة لضرورة تحرّك أوروبا لم تكن يوماً بهذا الوضوح، كما أن قيادتها باتت تحمل «إدراكاً مُتنامياً» لأهمية الخطوات العملية في مسار طويل. موغيريني قالت إن الخلاصة التي تكثّفت حول نقاشاتهم كانت «أولاً» حاجة أوروبا لحضور فاعل في «نظام مُتعدّد الأقطاب»، معتبرة أن «الولايات المتحدة شريك لا غنى عنه، لكن لن نُحدّد أنفسنا بأجندة أميركا، سنرى أجندة الرئيس المُقبل، أما أجندتنا فهي واضحة».
بعض من كانوا في الاجتماع لم يحتاجوا لتلك اللهجة الديبلوماسية. وزير الخارجية الايطالي باولو جينتيلوني قال إن إعلانات ترامب حول التضجّر من فواتير «الناتو» جعلت «موضوع الدفاع أكثر أهمية»، قبل أن يُضيف «من المهم وجود نواة قوية من دول الاتحاد الأوروبي مستعدة لهذا الاتجاه، ومن هذا المنظور التعاون بين إيطاليا وفرنسا وألمانيا إيجابي للغاية».
يذكر الوزير الإيطالي ما كانت برلين قد ردّدته أيضاً: إنشاء «شنغن» دفاعية، في إشارة لمنطقة «شنغن» التي أنشأتها 26 دولة أوروبية، مُزيلة الحدود في ما بينها، لتكون منطقة مفتوحة للتنقّل الحرّ من دون تأشيرة. هذا الطرح هو بمثابة تحذير للدول الأوروبية التي لا تزال مُتحفّظة، مُفضّلة التحرّك داخل «الحلف الأطلسي»، بأن المشروع الدفاعي المُشترك سينطلق «بمن حضر». هذا النوع من التعاون تُتيحه المُعاهدات الأوروبية، إذ لا يُمكن لدول مُعترضة إعاقة رغبة مجموعة دول أخرى في توثيق علاقاتها باتجاه معين، سواء الاقتصاد أو التجارة أو الدفاع.
هناك من كان أكثر تحديداً. وزير خارجية بلجيكا ديديه ريندرز طرح مثال الملف السوري، حيث احتكرت واشنطن وموسكو القرار بخصوص الميدان العسكري، لكونهما الفاعلتين بلا منازع في هذا المجال. قال ريندرز إن النقاش بعد انتخاب ترامب يتلخّص بعنوان «ماذا يُمكننا، نحن الأوروبيين، القيام به ليكون لنا صوت أقوى على الساحة الدولية»، مُشيراً إلى أن «الوضع في سوريا أظهر أننا في حاجة لأمن ودفاع أقوى يبدأ بالتعاون بين دول الاتحاد الأوروبي… هذه الفرص تفتح الآن» مع تداعيات فوز ترامب.
وزراء الدفاع والخارجية الأوروبيون دعموا مستوى عالياً من الطموح لمشروع التكتل الدفاعي. بعدما صادقوا على خُطط التنفيذ، نقلت موغيريني أن «الطموح» يشمل ثلاثة محاور: الإمكانية الذاتية لحماية الاتحاد الأوروبي ومُواطنيه، بما يعني العمل لتوفير الضمانة الأمنية لأوروبا المُرتهنة الآن عبر الضمانة الدفاعية الأميركية، القُدرة على الاستجابة العسكرية للصراعات والنزاعات، كالتي تُحيط بأوروبا الآن، العمل لبناء القدرات الأمنية والدفاعية بما يُعزّز مناعة دول الجوار الأوروبي.
كل هذا تحت عنوان العمل من أجل تحقيق «الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا». التنفيذ يشمل العمل على مشاريع دفاعية مشتركة، إنشاء مقرّ مُوحّد لتنسيق وإدارة المهمّات العسكرية الأوروبية، ضخّ أموال كبيرة في الصناعة العسكرية وتمويل الأبحاث لهذا الغرض.
بريطانيا تُعارض كل ذلك، لكن لا يُمكنها وقف من يُريدون العمل المشترك وفقاً لما تسمح به المُعاهدات الأوروبية. لندن تُمسك بهذه الاعتراضات كإحدى أوراق القوة القليلة لاستخدامها، بما يُعطيها وضعاً أقلّ سوءاً في مُفاوضات الخروج من التكتّل. فوز ترامب ربما هو ورقة القوة الأهمّ لها الآن، بعدما أيّد ودعم خروجها.
لكن هناك، مع كل ذلك، إرادة غير مسبوقة، للذهاب إلى «الاستقلالية الاستراتيجية». وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لو دريان قال مؤكداً هذا المنحى «المسألة اليوم تتعلّق بالاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا، إنها القُدرة على أن تُقرّر بشأن أولويات أمنها، سواء (التحرّك) في إطار الناتو أو الأمم المتحدة أو بنفسها»، في إشارة لإمكانية التحرّك مستقلّةً وفق ما تقتضيه مصالحها وأولوياتها.
كل ذلك جاء قبل ترامب، لكن هناك قضايا لا يُمكن للأوروبيين سوى الانتظار حيالها، وبعث رسائل تؤكد أين يقفون. مثال ذلك الدفاع الواضح عن الاتفاق النووي مع إيران، مع بيان مشترك لجميع الوزراء يؤكد أن حمايته، الالتزام به ومواصلة تطبيقه، تبقى أولوية أوروبية «مهمة للغاية».
(السفير)