ترامب ومأزق الإمبراطورية
غالب قنديل
بعيدا عن المعالجات المسطحة لظاهرة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة يمكن للدراسة العلمية المتأنية ان تقدم فهما أعمق لما يجري في المجتمع الأميركي.
عبر القراءة الدقيقة لما عبر عنه ترامب من توجهات سياسية داخلية وخارجية خلال حملته الانتخابية ومع الأخذ بالفكرة الصحيحة القائلة بأن الرئيس الذي سيقود الإمبراطورية بعد انتخابه سيختلف عن المرشح الذي توخى بشعاراته وتوجهاته الانتخابية استقطاب أوسع شرائح ممكنة لتعظيم الكتلة الناخبة التي يمكنها إيصاله إلى البيت الأبيض حيث يصبح مضطرا للتكيف مع دوائر مهمة من المؤسسة الحاكمة التي استمال ترامب بعضها في سياق حركته كما أسماها منذ تدحرج منافسيه داخل الحزب الجمهوري من مرشحي الرئاسة وبعدما فرض إذعان قيادة الحزب التي انحازت بداية إلى حركة إبطال ترشيحه عن الحزب في البداية ثم رضخت أمام قدرته على استقطاب جمهور واسع من محازبي اليمين الاميركي .
اولا كان من المفارقات ان يتوجه دونالد ترامب إلى شرائح العمال والمهمشين بالتوازي مع حركة المرشح الديمقراطي اليساري بيرني ساندرز الذي تآمرت عليه قيادة الحزب الديمقراطي ومارست التزوير لمنع تبني ترشيحه ولترجيح كفة هيلاري كلينتون وتلك الشرائح الشعبية الأميركية تعاني من البطالة والتهميش بنتيجة العولمة والركود حيث عبر ترامب عن رفضه لاتفاقيات التجارة الحرة التي شكلت اداة اميركية فرضت على سائر دول العالم بقوة الهيمنة الأحادية الأميركية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ومصدر هذا الرفض وبصورة أقوى التصدي لتدهور شرائح رأسمالية واسعة تضررت من منافسة البضائع التي انتجتها الشركات الأميركية المنتقلة بمعاملها إلى الصين والهند وغيرها بحثا عن اليد العاملة والمواد الأولية وشروط الإنتاج الأقل كلفة.
حمل ترامب خطابا يعكس صراخ الرأسمالية الأميركية المتضررة من الحدود المفتوحة بقدر ما سعى لاستمالة عمال المؤسسات المفلسة والمتأذية من العولمة كما تبنى نزعة حمائية تجارية لتقييد دخول السلع المنافسة إلى الأسواق الأميركية .
ثانيا إن عوائد الحدود المفتوحة في إطار العولمة تشمل شرائح رقيقة من الرأسمالية الأميركية التي تضم نخبة مالية من حاملي أسهم الشركات متعددة الجنسيات والأوليغارشية البنكية التي تتحكم بالبورصات العالمية وتدير شبكات عابرة للحدود للتجارة والاستثمار .
يمكن تكوين فكرة عن حقيقة التناقض بين تلك النخب المالية التي تهيمن على المؤسسات السياسية التقليدية في الولايات المتحدة بالتريليونات التي صبتها إدارة اوباما في صناديق هؤلاء عندما وقع انهيار البورصات العالمية بينما تركت آلاف المعامل ضحية الإفلاس وحجبت عنها معونات التعويم المالي وذهب الملايين من عمالها إلى جيش البطالة الجرار وكذلك تواصل ارتفاع حجم المهمشين الذي تم تقتير الهبات الحكومية لهم بمن فيهم الملايين من ضحايا الكوارث الطبيعية الذين ما زالوا في اماكن سكن مؤقتة منذ رئاسة جورج دبليو بوش وهذا ما يظهر مفارقة ارتباط الإدراتين الجمهورية والديمقراطية في النخبة الحاكمة بالطغمة المالية البنكية وسواها من احتكارات السلاح والنفط والتكنولوجيا الحديثة التي تحكم الولايات المتحدة.
ثالثا عبر ترامب عن مأزق الإمبراطورية والحاجة إلى تكيفها مع الوقائع الجديدة والتحولات العالمية الكبرى من خلال ثلاثة امور :
– نقد الحروب والتدخلات العسكرية بشكليها الديمقراطي والجمهوري فقد شن حملة عنيفة على إدارة بوش وتورطها في حربي العراق وأفغانستان كما استهدف إدارة اوباما وحملها مسؤولية شن حروب بالوكالة بواسطة شبكات القاعدة وداعش .
– مد اليد إلى روسيا ودعوتها للتعاون في احتواء الازمات الدولية الكبرى وهو تكريس للاعتراف بسقوط الهيمنة الأحادية الأميركية من باب الإقرار بندية روسيا طليعة القوى العظمى الصاعدة الجديدة في العالم.
– تبني اولوية الجهود الأميركية لإعادة بناء الاقتصاد الأميركي من الداخل ومعالجة مشاكل اهتراء البنية التحتية وغيرها في ورشة شاملة لخلق ملايين فرص العمل الجديدة ورصد موازنات حكومية عملاقة لهذا التحدي بعدما تركزت جهود الإدارات السابقة على تمويل الحروب التي كلفت تريليونات الدولارات وولدت ركودا اقتصاديا خانقا داخل الولايات المتحدة.