برودة بوتين وسخونة جبهة حلب دمشق – عبد الله سليمان علي
هدوء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعاطيه مع ملف حلب، يعكس عقلاً بارداً يؤمن أن الصقيع السيبيري قادرٌ على احتواء أقوى الحرائق. وحريق حلب الذي يلتهم المدينة منذ أربع سنوات وبات في ظل التدخلات الإقليمية والدولية المكثفة، يهدّد بتوالد الحرائق في الإقليم والمنطقة، يستحق أن يوليه الرئيس الروسي عنايةً خاصّةً ويتعامل معه بأهم ما لديه من خبرات سياسية وعسكرية.
في مقابل هذه البرودة الروسية هناك حرارةٌ سورية إيرانية ترتفع تدريجياً على وقع التطورات الميدانية اليومية، وترتفع كذلك بفعل الاقتراب من الساعة الصفر التي يُفترض أن تكون بداية المشوار الأخير لعودة حلب إلى الدولة أو عودة الدولة إلى حلب.
اللعب الروسي المنظّم خلال الشهر الماضي على حبال الإعلام والسياسة والحرب، أربك الخصوم حول حقيقة النيات الروسية وحقيقة مخططها وأهدافها، وعمّا إذا كانت تفضّل الوصول إلى حلب عن طريق السياسة أو عن طريق المعارك. وكأنّ الخلطة التي جمعت بين مرونة السياسة والتحشيد العسكري، قد أتت أُكُلَها.
وفي حين تمثلت المرونة السياسية في إصدار موسكو المبادرة تلو الأخرى بخصوص هدن أحادية الطرف، وفي التمسك بالقرار القاضي بوقف الغارات الجوية حتّى في أصعب الظروف العسكرية التي يمر فيها حلفاؤها على الأرض، فقد تبدّى التحشيد العسكري غير المسبوق من خلال إرسال قطع الأسطول البحري الروسي المكوّن من حاملة الطائرات «الأميرال كوزنيتسوف» والطراد الذري الصاروخي الكبير «بطرس الأكبر»، والسفينتين «سيفيرومورسك» و«الفريق البحري كولاكوف» الكبيرتين المضادتين للغواصات، إلى محاذاة الشواطئ السورية، وذلك في أوسع انتشار عسكري لروسيا خارج أراضيها منذ انتهاء الحرب الباردة.
وقد لا تكفي مقولة «العصا والجزرة» للإحاطة بأهداف هذه الاستراتيجية الروسية، خصوصاً إذا تم النظر إلى المشهد من زاوية أوسع تتعلق بالصراع الروسي الأميركي، لكنها على الأقل كافية لتعكس روحيّة هذه الاستراتيجية.
وبدا أول الوهن في مواجهة هذه الاستراتيجية من خلال اضطرار أنقرة لمطالبة «جبهة النصرة» علناً بالانسحاب من أحياء حلب الشرقية. وهذه المطالبة ليست مسرحية إعلامية، بقدر ما هي مؤشر على أن الاندفاعة الروسية أجبرت أنقرة ومَن وراءها على تغيير مخططاتهم ودفعتهم لسير الخطوة الأولى في مشوار التخلّي عن «النصرة» الذي هو مطلب روسي جوهري.
وبرغم أن أنقرة ستحاول المناورة على هذه الاندفاعة والسعي للاحتفاظ بالفصائل الأكثر قرباً إليها داخل الأحياء الشرقية بعد استبعاد «النصرة»، إلا أن ذلك لن يتمّ إلا وفق ضوابط متفق عليها مع الروس. وقد يكون ما كشفته «واشنطن بوست» حول إصدار الرئيس الأميركي باراك أوباما قراراً بمحاربة «جبهة النصرة» وإيجاد قادتها المرتبطين بالقاعدة وقتلهم، هو الوهن الثاني الذي يؤكد أن الاستراتيجية الروسية ربما تسير في الطريق الصحيح.
وما زالت روسيا تعتصر الوقت دقيقةً تلو الأخرى في ترسيخ هذه الاستراتيجية والتلاعب بأعصاب خصومها وحشرهم في مربّعات ضيقة من التردد والحيرة. ويخطئ مَن يظنّ أن فشل الهُدن هو فشل روسي، لأن روسيا لم تطرح هذه المبادرات إلا وهي على ثقة أنها ستكسب مهما كانت ردة الفعل تجاهها. فقبول الهدنة وخروج المسلحين من أحياء حلب الشرقية هو انتصار روسي بلا شك. أما رفضها فلا يمثل أي خسارة لأن موسكو استفادت أمرين، الأول هو مراكمة الذرائع بين يديها، والثاني تلميع إعلامي لجهودها في مواجهات الحملات الضخمة التي شُنّت عليها من غالبية الدول الغربية.
وقد برزت مؤخراً جملة من التطورات أبرزها: رفض موسكو تمديد التهدئة الإنسانية، معتبرةً أن ذلك قد يؤدي إلى نتائج ضارة. وتمركز القطع البحرية الروسية في منطقة جنوب شرق قبرص، حيث باتت على مسافة مناسبة لتوجيه ضربات إلى حلب. وكذلك الحديث عن بدء الطائرات الروسية «سو – 33» و «ميغ-29 كا» بالتحليق مجدداً فوق الأراضي السورية، مع توقعات بأن تشارك في العمليات العسكرية في حلب إلى جانب قطع البحرية وخاصة الفرقاطة «الأميرال غريغوروفيتش» المزودة بصواريخ من نوع «كاليبر»، حسب ما ذكر مسؤولون أميركيون.
وفي هذا الإطار، أكد مصدر ديبلوماسي روسي، أن القطع البحرية المتواجدة قرب السواحل السورية باتت جاهزة للمشاركة في عملية عسكرية قريبة ضد المسلحين في حلب. ونقلت وكالة «إنترفاكس» الروسية عن الديبلوماسي تأكيده للمعلومات التي ذكرها الأميركيون، لافتاً إلى أن مجموعة السفن الروسية «تتحضّر على قدم وساق لضرب الإرهابيين وصارت جاهزة لبدء العمل العسكري في أي لحظة».
وتعتبر هذه التطورات مؤشرات مهمة على أن الاستراتيجية الروسية تقطع مراحلها الأخيرة قبل أن تبدأ بحصاد ما زرعته خلال الفترة الماضية.
في غضون ذلك، كان الجيش السوري والقوى الرديفة له يواكبان الاستراتيجية الروسية عبر وضع خطط دفاعية وهجومية من شأنها ضمان تحصين مدينة حلب من أي مفاجآت غير محسوبة، وتأمين الظروف المناسبة لإطلاق الساعة الصفر بالتزامن مع تتالي وصول القطع البحرية الروسية إلى نقاط تمركزها في البحر المتوسط.
وبالرغم من أنه لا يمكن التكهّن بطبيعة الخطط العسكرية التي تمّ وضعها من قبل الجيش السوري وحلفائه لاستعادة قلب الشمال وضخّ الحياة فيه من جديد، إلا أن مجريات المعارك الأخيرة في حلب كشفت عن اتباع الجيش لبعض التكتيكات العسكرية الفعّالة والناجحة والتي كان لها دور كبير في امتصاص هجمة «جيش الفتح» تمهيداً لإفشالها. وهنا تبرز أهمية التكامل بين الدور الروسي والسوري، لأن نجاح «جيش الفتح» في فك الحصار عن أحياء حلب الشرقية كان سيشكل صفعة قوية للاستراتيجية الروسية وقد يؤدي إلى انهيارها بالكامل، فكان لا بد من صمود الجيش السوري في الداخل بالتزامن مع قيام روسيا بدورها في الخارج.
وبين معركتَيْ جنوب حلب وغربها الأخيرتين، بدا جلياً مدى التنوّع الذي تنطوي عليه تكتيكات الجيش وقدرته على الدفاع والهجوم في الوقت نفسه، وهو ما عبّر عنه قائد ميداني في وقت سابق بالقول «إن الجيش السوري وحلفاءه استخدموا طريقة الدفاع على هيئة الهجوم بدقة متناهية وحققوا النتائج الكبيرة».
وفي حين اتّبع الجيش في معركة جنوب حلب (الراموسة) «أسلوب الرصاص المكثف والالتحام المباشر»، متغاضياً عن «الصدم والصدّ» لما يمكن أن تؤدي إليه من خسائر بشرية كبيرة لا تحتملها طبيعة المعركة، فقد اتبع في غرب حلب (ضاحية الأسد ومشروع 1070) أسلوب «الدفاع في العمق» لامتصاص هجمة «جيش الفتح»، قبل الانتقال إلى الهجوم عبر أسلوب «الاستنزاف»، ما مكّنه من استعادة العديد من النقاط التي خسرها بعدما كبّد المهاجمين خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد.
ويقوم «الدفاع في العمق» على بناء خطوط دفاعية عدة غالباً ثلاثة خطوط تكون متدرّجة من حيث القوة والتحصين، بحيث يكون الأول أضعفها والثالث أقواها. وفي حين يكون دور الخط الأول هو كشف الهجوم وعرقلته لوقت محدود قبل الانسحاب إلى الخط الثاني الذي يتكوّن من دبابات ورشاشات وقناصات، هنا يتقدّم المهاجمون ظناً أنهم يحققون تقدّماً على الأرض، خصوصاً عندما يتوالى الانسحاب من الخط الثاني الذي تذهب قوةٌ منه إلى الخط الثالث والأخير، بينما تقوم قوة أخرى بتفعيل الكمائن وعمليات الالتفاف على المهاجمين الذين يجدون أنفسهم عند وصولهم إلى الخط الثالث الذي يكون أشبه بحائط صد يتعذّر اختراقه، وقد أصبحوا بين فكي كماشة.
وكان هذا الأسلوب أفضل طريقة للردّ على الخطة التي وضعها «جيش الفتح» بهدف اقتحام أحياء حلب الغربية وفك الحصار عن مقاتليه في الأحياء الشرقية. حيث تقوم هذه الخطة على ثلاثة عناصر هي القصف التمهيدي العنيف، تفجير المفخّخات لكسر خطوط الدفاع، ودخول الانغماسيين في محاولة للسيطرة.
وبعد فشل «ملحمة حلب الكبرى» وتحوّلها إلى ثاني أكبر هزيمة تلحق بـ «جيش الفتح» بعد هزيمة الراموسة، فإن الأوضاع في حلب تتجه نحو الاقتراب من معركة الحسم سواء بشكلها العسكري أو السياسي. والمبادرة بيد دمشق وحلفائها لأن الخصوم قالوا كلمتهم الأخيرة وأخفقوا في فرضها، وقد كانوا على وعي تام بأن فشل معركتهم الهجومية ستكون له مضاعفات خطيرة عليهم، وهو ما عبر عنه توفيق أبو شهاب قائد «حركة نور الدين الزنكي» بأنه «لن تقوم لنا قائمة في حلب بعدها»، وذلك قبل بدء الهجوم الأخير بحوالي أسبوع.
إلا أن التزامن بين الكشف عن قرار البيت الأبيض بمحاربة «النصرة» بعد طول تجاهل، وفشل «ملحمة حلب الكبرى»، يشير إلى أن واشنطن قد تكون لديها مخططات إضافية لعرقلة الاستراتيجية الروسية أو محاولة احتوائها. فهل قرار واشنطن ضد «النصرة» هذه المرة جدي ونهائي؟ وهل هو مؤشر على عودة واشنطن نحو التفاهم مع روسيا وفق الشروط السابقة نفسها، التي كانت على رأسها المطالبة الروسية بعزل «جبهة النصرة» ومحاربتها، أم أنه مناورة جديدة لكسب الوقت قبل أن تنضج تطورات أخرى قد يكون لها تأثير على معركة حلب كمعركتي الرقة والباب؟
(السفير)