أوروبا تخشى الثلاثاء الأسود: رئيس أركان الحرب أم السلام مع روسيا؟ وسيم ابراهيم
لا حاجة لكل هذا الترقب إذا كان أمر الانتخابات الأميركية بيد الأوروبيين. حينها، ستكون هيلاري كلينتون الرئيس المفضل، بفارقٍ شاسع عن دونالد ترامب، الذي يُعادل «الفزّاعة» لمستقبل أقرب حلفاء أميركا.
قضايا كبيرة على المحك، في مقدمتها الحماية الأمنية والعسكرية للقارة، وآفاق الصراع مع روسيا، ستكون مواجهتها أوروبياً أسهل مع القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية هيلاري كلينتون، لكن المشكلة هنا، حيال الحيرة الانتخابية الأميركية، أن النبوءات المشؤومة لا تعود كذلك حينما يكون لها سابقة، ليس فقط مشابهة، بل لا تزال طازجة في البيت الأوروبي.
هل هناك عاقلٌ يطرح جدياً سيناريو حرب عالمية ثالثة؟ على ما يبدو هذا ممكن.
كان يمكن لرواية تتحدّث عن حرب وشيكة بين الغرب وروسيا ألّا تعدو كونها فانتازيا أدبية، إثارة تقوم بمحاكاةٍ من قبيل تلفزيون الواقع الدولي. لكنها ليست كذلك حينما يكون كاتبُها جنرالاً مرموقاً، كان لسنوات الرجل رقم اثنين في القيادة العسكرية لـ «حلف شمال الأطلسي».
سيناريو الحرب الوشيكة في العام 2017 سطّره الجنرال ريتشارد شيرف، في روايةٍ تحت عنوان «الحرب مع روسيا: تحذيرٌ عاجل من القيادة العسكرية العليا»، نشر في أيار الماضي. الحكاية ستكون كالتالي وفق سرده: تقوم روسيا بهجوم خاطف على لاتفيا، إحدى دول البلطيق الثلاث المتاخمة لحدودها، فيستنفر «الحلف الأطلسي» للدفاع عن أحد أعضائه، لتخرج موسكو بتهديدٍ حاسم حول استخدام أسلحتها النووية في حال تعرّضت لأي ضربة عسكرية، ثم يتفاعل المأزق حرباً في العالم.
لو كان الإلهام قادماً من رأس الجنرال البريطاني فقط، واستنتاجاته، كان يُمكن، استطراداً، الحديث عن عسكري ضجِر من خريفه التقاعدي، يكتب لينفّس ويلفت الانتباه. لكن الملهمين المتوقّعين يعطون لذلك السيناريو وزناً أكبر. خدم شيرف في «الأطلسي» (2011- 2014) تحت قيادة ضابطين أميركيين، هما في الصفوف الأمامية للمطالبين بوقف روسيا الصاعدة عند حدّها. كان نائباً للقائد السابق لقوات «الأطلسي» في أوروبا الجنرال فيليب بريدلوف، من أكثر الشخصيات التي تمقتها موسكو، كما نائباً لسلفه الأدميرال جيمس سترافيديس.
هكذا، لم تكن مصادفةً أن يكتب ستافريديس مقدمةَ كتاب «الحرب مع روسيا». سيكون مفيداً الإشارة إلى أنه كان من بين المرشحين لمنصب نائب الرئيس ضمن حملة كلينتون، فالكتاب يبني أحداثه انطلاقاً من «واقع أدبي» بأنها ستكون الرئيسة داخل فرضية الحرب العالمية الثالثة. حينما تصدّر ستافريديس لتقديم تلك الشطحة الأدبية، كتب أنه «من بين كل التحدّيات الجيوسياسية التي نواجهها، الأكثر خطورة هو انبعاث روسيا تحت قيادة (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين».
حينما يتحدّث ديبلوماسيون أوروبيون عن الهواجس تجاه روسيا، تحتارُ أحياناً إن كان ما يقوله بعضهم مستَلهماً من كتاب الحرب ذاك، أم العكس. الفوارق بسيطة، على حد شروحات ديبلوماسي أوروبي تحدث لـ «السفير»: المخاوف يثيرها بالفعل مسؤولون في دول البلطيق (لاتفيا وليتوانيا وأستونيا)، بفارقٍ أن «غزوا روسيا يختبر ردة فعل الناتو» سيحدث تالياً لعودة بوتين إلى الكرملين بعد انتخابات 2018. مراكمة صواريخ «اسكندر» الروسية، الحاملة للأسلحة النووية، في جيب ستالينغراد بين دول البلطيق، مع مناورات مستمرة، لا تفعل سوى تغذية تلك الهواجس.
«المسألةُ لا تتعلقُ بالخيال الواسع حينما تكون مخاوف مشروعة»، يقول الديبلوماسي الأوروبي. هي كذلك، خصوصاً حين الحديث عن دول محكومة بقدرها الجغرافي، المحدد لخطط أمنها القومي. دول عاشت في الكنف السوفياتي قبل أن تقفز جماعياً إلى الحضن الأطلسي بعد انهياره. كان يمكن القول أيضاً إنها مجرد وساوس «مشروعة»، لو لم يخرج التحذير من مسؤولين كبار على رأس عملهم.
ليس قليلاً ما قاله وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير، حينما استعرض الإطار الدولي المحموم حالياً بتنافس غير مسبوق في حدته وعواقبه. اعتبر أن المخاطر تفوق ما ساد خلال مرحلة الحرب الباردة، لأنه حينها «كانت واشنطن وموسكو تعرفان خطوطهما الحمر وتلتزمان بها». الحكومة الفرنسية تذهب خطوةً أبعد قليلاً، حينما تقول إن نطاق المخاطر لا يستثني القارة الأوروبية.
جالساً إلى جانب رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، أول من تفوه حديثاً بفكرة «الجيش الأوروبي»، قال رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس إن المضي لتقوية الدفاع الأوروبي المشترك أمرٌ محتّم. متوجهاً لمن يفضلون الحلف الأطلسي على تقوية الدفاع الأوروبي، اعتبر فالس أن الدول المتاخمة لروسيا لا تملك رفاهية المناظرة: «بالنسبة للدول التي تتحدث عن (حصر) الدفاع داخل الناتو، أو من قبل الولايات المتحدة لأقل بكلمات أخرى، هل ستحمي أميركا هذه الدول والاتحاد الأوروبي؟ هذا السؤال المطروح، وقناعتي أن الإجابة هي لا، لن يفعلوا»، ليُشدد أن «هذا تغير استراتيجي جوهري، سيؤثر للعقود المقبلة».
الانتخابات الأميركية في قلب كل تلك التداولات الأوروبية. يُسّجل التاريخ لدونالد ترامب أنه أكبر شخصية أميركية تثير شكوكاً علنية حول التزام أميركا بالدفاع عن أوروبا، أي التزام الحلف الأطلسي بالمادة الخامسة من ميثاقه، المتعلقة بالدفاع المشترك لدوله الثماني والعشرين، بما فيها 22 دولة من التكتل الأوروبي. اعترضَ بأن بلاده لن تواصل دفع فواتير تأمين أوروبا عسكرياً، كما وجه انتقاداتٍ لحلف «الناتو»، مع تخلف دوله الأوروبية عن تحمل قسطها المالي والدفاعي.
كان يوماً تعيساً لدول البلطيق، للدول المتاخمة لروسيا، التي تقيم هناك مع وساوسها المتورّمة أصلاً. أميركا تتحمل أكثر 70 في المئة من موازنة «الحلف الأطلسي»، في حين أن بضع دول أوروبية تبلغ عتبة إنفاق اثنين في المئة من دخلها على التسلّح، نزولاً عند العتبة المعيارية في «الناتو». مؤخراً فقط، وبعد انتقاداتٍ لم تتوقف، بدأت الدول الأوروبية تُفرمل الاقتطاعات من الموازنة العسكرية، مع وعودٍ بمحاولة بلوغ العتبة الأطلسية تلك.
لذلك لا يتردد مسؤولون أوروبيون في التعبير عن تأييدهم لكلينتون، بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي غازلتها بالقول: «أنا معجبة بتفكيرها الإستراتيجي وبالتزامها القوي بالشراكة العابرة للأطلسي». زعماء آخرون دعموها بانتقاد خصمها. هناك بعض التفاوت مع زعماء يميلون كلامياً لترامب، نظراً للصعود اليميني المتطرف، لكن الغالبية تعلن أن كلينتون ستكون أفضل حتماً لأوروبا. لن تؤيد ابتعاداً عن القارة، لن تترك بوتين ينتزع مكانة جديدة لروسيا، لكنها لن تعكس مسارا «محور آسيا» الذي كانت أحد منظريه.
لذلك يمضي الأوروبيون لتحمل مسؤولية أمنهم عسكرياً، بما فيه التحضير لدور أقوى في جوارهم، مروجين لدفاع أوروبي أقوى يعمل بالمتعاضد مع «الحلف الأطلسي». هذه المرحلة الانتقالية ستكون أقل تعقيداً مع رئيس ديموقراطي لطالما فضله الأوروبيون. ستكون مرحلة شاقة مع مرشح جمهوري يَعِدُ بتحويل كاريكاتير آرائه إلى سياسة عملية، واعداً بأنها لن تكون مجرد عناوين استقطاب شعبوية.
الصلةُ الوثيقة بين مآلات شعبويي ضفتي الأطلسي واضحة للجميع هنا في أوروبا. حينما صعد ترامب صار الإعلام الأميركي يحصي لجمهوره نسخ «ترامب» في أوروبا. الواقع، الأقرب للأسبقية المهنية، يؤيد أن ترامب هو النسخة وليس الأصل. فرنسا لديها زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» المتطرف مارين لوبين، هولندا لديها غيرت فيلدرز، الشهير بعدائه للإسلام، وكلا البلدين تنتظرهما انتخابات عامة في الربيع المقبل، أي حينما سيكون الرئيس الأميركي لا يزال جديدا في غلافه السياسي.
البعض يقول للأوروبيين ألا داعي لتصنع الدهشة. يعلق على ذلك سايمون رايك، الكاتب والأستاذ للشؤون الدولية في جامعة «روتجرز» الأميركية، فيقول: «السؤال الغالب في أوروبا: كيف يمكن أن ينتخب الأميركيون دونالد ترامب؟ سؤالٌ وجيه، لكن الأميركيين يسألون: كيف أمكن لبريطانيا اختيار الخروج من الاتحاد الأوروبي؟».
الأوروبيون يتذكرون تلك المرارة، فيما يراقبون بضع نقاط مئوية تعطي أرجحية طفيفة لكلينتون. بضع نقاط مشابهة جعلتهم في 23 حزيران الماضي ينامون على طمأنة حقل الاستطلاعات، ليستيقظوا على بيدر تصويت يقرر خروج بريطانيا من العائلة الأوروبية. خيار جعل أوروبا محاصرة بمشاكلها الداخلية، فيما كان ترامب، بالمناسبة، ليس فقط من الداعمين له بل أيضا في صدارة المهنئين به.
الأهمية الكبيرة لانتخابات أميركا بالنسبة لأوروبا لا جدل فيها. اتفاقية التجارة بين ضفتي الأطلسي، لتكوين أكبر منطقة حرة في العالم تشمل نصف تجارة العالم، سيكون لها حظوظ أكبر مع الرئيسة كلينتون، رغم العقبات على الجانبين، في حين يعد ترامب بإجهاضها. ترامب متهم بأكثر من التسامح مع بوتين، بالتشكيك في الدفاع المشترك الأطلسي، فيما كلينتون يمكنها المفاخرة بأنها كانت من أوائل المتوعدين، علناً، بمنع بوتين من «إعادة بناء» الاتحاد السوفياتي داخل مشاريع أخرى.
أيهما الأفضل لأوروبا، احتواء روسيا بالحوار أم بتصعيد الردع؟ بكلمات أخرى، أيهما الفتيل الأنسب لهذا المزيج السياسي الانفجاري في العالم؟ متحدثا عن روايته «الحرب مع روسيا»، قال الجنرال شيرف إنها تحذير متقدم يدعو لاحتواء بوتين بلغة القوة، مع العلم أن سيناريو الحرب، وفق كتابه، يلزمه أن تلعب كلينتون شخصية الرئيس الأميركي.
(السفير)