العالم الآن بحسب بوتين: لا حلول ثمنها جنازة روسيا وسيم ابراهيم
الخلاصة التي حملها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كانت واضحة: الشرق الأوسط، سوريا على وجه الخصوص، باتت البقعة المثالية التي تجري فيها محاولة إعادة صياغة الأوزان الدولية. الصراع مساحته كل نقاط تماس المصالح الاستراتيجية في العالم، بين روسيا الصاعدة والغرب الرافض للاعتراف بعودتها، لكن موسكو ترى سوريا مفترق طرق تريد منه أن يكون الباب للاعتراف التام بها لاعباً دولياً لا تُصاغ الحلول إلا بأخذ مصالحه على قدم المساواة مع الولايات المتحدة وحلفائها.
أمام الرفض الذي تُواجَه به موسكو للاعتراف بوزنها الجديد، كما عبّر عنه رئيسها، لا يبقى أمامها سوى فرضه بأداتها السياسية الأهم، بوصفها لا تزال قوة عسكرية عظمى، لأن البديل سيكون «الانتحار على قيد الحياة»، كما قال فلاديمير بوتين بلسانه. الباب يبقى مفتوحاً للتسوية، لكنها من النوع الذي يبعث على الشك في حجم الطبخة: صفقة شاملة حول الشرق الأوسط، على غرار الصفقة التي ولدت أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.
تلك الرسائل حملها بوتين معه إلى لقائه السنوي مع نادي «فالداي» الأسبوع الماضي. هذا الحدث بات يتعامل معه كبار المسؤولين والزعماء، كما فعلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل: لا يكتفون بالتقارير التي يرسلها سفراء بلادهم عنه، بل يطلبون تفريغاً كاملاً لكلام الزعيم الروسي ليراجعوه بروية على مكاتبهم. هكذا كرّس بوتين أهمية لقاء «فالداي»، المكوّن من خبراء ومحللين وأكاديميين، ليشرح من خلاله رؤيته لعالم اليوم، مصالح روسيا فيه وبوصلة سياساتها الاستراتيجية.
تحدّث بوتين بروية، بديبلوماسية وضبط نفس، خلال أكثر من ثلاث ساعات، محاججاً بما يراها قضية روسية عادلة، تتعلّق بالدور الدولي لبلاده، يحاول الوصول لتسوية حولها رغم كل الشواهد على عدم رغبة الغرب بذلك. لكن في النهاية خرج بوتين عن ضبط النفس حينما سُئل عن مسؤولية موسكو حيال التوترات الجيوسياسية: «نحن جميعاً نحتاج لخفض التوترات الجيوسياسية، لكن ليس على طريقة دفن أنفسنا ونحن على قيد الحياة. إذا كانت تكلفة خفض التوترات الجيوسياسية جنازتنا، فحينها هذا ليس خياراً لأحد هنا».
المسألة إذاً، وفق ما يعرضها، تتعلق بمبدأ حاكم لكل تلك الصراعات، يتعلّق برفض الغرب الاعتراف بوزن جديد لروسيا جديدة ترفض أن تبقى تُعامَل بوصفها من خسر الحرب الباردة.
يقول بوتين «بالنسبة لهذه التوترات، لا أحد يمكنه جعلنا نفعل ما يريدوننا أن نفعله حصراً، وأريد أن أشدّد على هذا، حصراً على حساب مصلحتنا الوطنية. هنا المغزى. لا يوجد حوار وهذه هي المشكلة. لقد صاغوا موقفاً، يعلنون أنه الصواب، والمناقشة تتلخّص في الدور حول بأي سرعة نحن نقبل هذا الموقف. هل من الممكن العمل بهذا الشكل؟ هذه هي الحال تقريباً في أي قضية».
يعترض بوتين على جعل «عدوانية روسيا» مبتدأ أي نقاش عن الصراعات، مذكراً مراراً بأن مَن أعاد القصف «الهمجي» إلى قلب أوروبا كان حلف الأطلسي، الأميركيون، في حملتهم على بلغراد خلال التسعينيات: «لقد قلت هذا أكثر من مرة، وأنا مستعدّ لقوله مرة أخرى. يوغسلافيا، العراق، افغانستان، ليبيا، وتوسّع الناتو ما هذا؟ روسيا العدوانية لم تفعل أياً من ذلك. لماذا تقوم باستفزازنا لنقوم بأفعال حماية مصالحنا. دعونا نتفاوض على الحلول بدلاً من ذلك. لكن من المستحيل الاتفاق على أي شيء، وحتى عندما نتفق على شيء لا يتم تنفيذ هذه الاتفاقات».
ما يهمّ هو القضية السورية، بعدما باتت ميدان تصفية ذلك الحساب المستعصي. المسألة بالنسبة لبوتين تتعلّق بدور جديد لبلاده في الشرق الأوسط، فها هو يبادر بشكل مدروس لطرح إمكانية صفقة شاملة، يتم فيها ترسيم أحجام النفوذ، كما حصل في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ما مهّد لإعادة إعمارها بخطة «مارشال» الأميركية.
من نص كلمته المُعَدّة، دعا إلى «استعادة دول الشرق الأوسط عبر برنامج شامل وطويل الأمد، نوعاً من خطة مارشال، لإحياء منطقة ممزقة بالحرب والنزاعات. روسيا مستعدة بالتأكيد للانضمام بفعالية لجهود الفريق هذه».
عن سوريا تحدّث طويلاً. الفحوى، الخبر بالأحرى، أن قرار روسيا وقف القصف فوق حلب، وإطالة ذلك، يأتي بوصفه مهلة ممددة لإنجاز فصل «جبهة النصرة» عن باقي الفصائل. كل هذا رغم الخيبات الروسية، التي شرحها بالتفصيل. يقول عنها: «اتفاقاتي الشخصية مع رئيس الولايات المتحدة لم تتمخّض عن نتائج أيضاً. كان هناك ناس في واشنطن جاهزون لفعل كل شيء ممكن لمنع هذه الاتفاقات من أن تطبق على أرض الواقع. هذا يعكس رغبة لا يمكن شرحها وغير عقلانية من الدول الغربية لمواصلة صناعة الأخطاء نفسها… يستمرون في إمداد وتدريب مجموعات إرهابية على أمل استخدامهم لتحقيق أهدافهم السياسية الخاصة، لكنّ اللاعبين، المتطرفين في هذه الحالة، أكثر دهاءً وذكاءً وأقوى منكم، وإذا لعبتم هذه اللعبة معهم فستخسرون دائماً».
في الحديث عن صلب الاتفاق مع واشنطن، شرح بوتين أنه: «اتفقنا أننا سنقرر هناك بالضبط، في ساحة المعركة، مَن هم المعتدلون، ولن نقوم بلمسهم، ومَن هم الإرهابيون ونحن مع شركائنا الأميركيين سوف نستهدفهم. قدموا وعوداً متكررة. هذه الوعود قدمت على مستوى وزراء دفاعنا، وزراء الخارجية، ووكالات الاستخبارات، لكن للأسف تمّ إسقاط ذلك كل مرة ولم يلتزموا بوعودهم».
رغم عدم التطبيق أعيدت إثارة المسألة أميركياً خلال اجتماع قمة في الصين: «الرئيس (الأميركي باراك) أوباما اقترح في الواقع فصل هذه القوات المختلفة مرة أخرى، لكنه أصرّ: يجب أولاً أن نعلن إيقاف العمليات القتالية، إيقاف الضربات الجوية، خلال سبعة أيام، وسيتكفلون هم بمسؤولية فصل المعارضة المعتدلة عن النصرة».
يقول الرئيس الروسي إن هناك ما سيبقى طي الكتمان مما دار بينه وبين أوباما، ثم يستطرد «قررت قبول التسوية، قلت سنذهب مع مقترحهم، ونعلن الوقف، نوقف الغارات أولاً، ونعطيهم الأيام السبعة التي طلبوها». لكن بعد إعلان وقف الأعمال العدائية من الجانب الروسي، في 12 أيلول، جاءت الغارة الأميركية على موقع للجيش السوري يوم 17 أيلول، ليعتبرها الروس الخرق الذي أطاح الهدنة.
هنا يأمل بوتين أن ينقل نظيره تلك «الحقائق» لنظرائه الأوروبيين، وألا يلويها ليحرّضهم على الضغط بالعقوبات على بلاده: «أتصور أنه سيتحدث مع شركائنا الأوروبيين حول ذلك عندما يزور أوروبا، وأعتقد أن هذا يجب أن يتم بصراحة وصدق، وليس ببساطة في محاولة للتأثير على موقفنا في سوريا».
لمَ لا تزال روسيا تتحدّث عن وقف الغارات عن حلب إذاً؟ يبدو الأمر مهلة لا تزال مفتوحة لواشنطن وللرد على الحملة الدولية التي تجرّم روسيا بحلب: «أنا أدرك أنها ليست مهمة سهلة (فصل النصرة)، ونحن لا نبحث عن أي إلقاء للاتهامات. لكن علينا أن نحاول الوفاء بوعودنا». لكن إلى جانب ذلك، يعلن بوتين أنهم لن يعطوا مهلة مفتوحة لتلك التفاهمات: «على كل حال، يجب ألا ينتهي الأمر بأن نُلام على كل خطيئة ممكنة. هذا ببساطة غير لائق. لقد كنا نُبدي ضبط النفس ولم نرُدّ بعجرفة على شركائنا، لكنّ هناك حدوداً لكل شيء، وربما نضطر للرد في مرحلة ما».
كل هذا يحدث في سياق صراع واسع، شديد التوتر كما ينقله بوتين، حدّ التأكيد أن هناك سباق تسّلح يجري مسبقاً، كما أن شحذ السلاح النووي سيبقى ضمانة مطلوبة.
هناك مسألة إعلان روسيا تعليق التزامها بمعاهدة حسن النيات النووية، تحديداً معاهدة تخفيف مخزونات البلوتونيوم الذي يُستخدم في صناعة الأسلحة الذرية. يقول بوتين إن ما قاموا به كان ردّ فعل بعد تذرّع واشنطن بأن لديها صعوبات مالية بالنسبة لبناء منشآت التخلص من البلوتونيوم: «من دون أي تنسيق مسبق معنا قامت الولايات المتحدة بإعلان أحادي أنهم لن يخففوا هذا البلوتونيوم بل سوف يخزّنونه، وهذا يعني إمكانية إعادة تخصيبه في أي لحظة، لقد بنينا منشآت وأنفقنا. هل نحن أغنى من الولايات المتحدة؟».
يقول بوتين إن هناك أمراً «مهماً» يجب ألا يغفل عنه العالم، متحدثاً تحديداً عن سباق تسلح قائم. يعيد ذلك لانسحاب واشنطن العام 2002 من معاهدة الصواريخ المضادة البالستية التي وقعت 1972، شارحاً: «كنا مضطرين لرفع مستوى مجمع أنظمتنا الهجومية. أصدقاؤنا الأميركيون قالوا افعلوا ما تشاؤون لأن نظام الدفاع الصاروخي الذي سنبنيه ليس موجّهاً ضدكم، وسنفترض أن عملكم على أنظمتكم الهجومية لن يكون موجهاً ضدنا. لا بأس، قلت نحن نعمل. لكن سواء أحببنا ذلك أم لا، بهذه الطريقة نحن كلانا صعدنا سباق التسلح حتى في هذا المجال».
لماذا النووي والحديث عنه؟ يقول بوتين إنه أداة تحرس مكانة روسيا أيضاً: «استخدام الأسلحة النووية هو آخر شيء يمكن القيام به. هذا الخطاب مضرٌ وأنا لا أحبّه، لكن علينا أن ننطلق من الواقع وأن الأسلحة النووية هي رادع وعامل لضمان السلام والأمن حول العالم، من المستحيل أن ننظر إليها كعامل في أي عدوان محتمَل، لأن هذا مستحيل، وسيعني ربما نهاية حضارتنا».
كيف ينتظر لأسطورته في روسيا اليوم، ترويج صورته كمستعيد للأمجاد؟ يعلق بوتين واضعاً يده على موقع الخاصرة الرخوة لبلاده: «لدينا أشياء كثيرة عالقة، المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وحل هذه المشاكل أمر حاسم للاستقرار السياسي الداخلي ولوزن روسيا في العالم. هذا ما يُشغل ذهني، وليس بعض القوى الأسطورية».
من البلوتونيوم، إلى طيف واسع من الخلافات المترابطة، يقلّل بوتين من فرص حسم أي شيء مهم الآن: «هناك قضايا عديدة صار من الصعب نقاشها مع الادارة الأميركية الحالية لأنه عمليا لم يتم الوفاء بالالتزامات ولم يتم احترام الاتفاقات بما فيها في سوريا. نحن مستعدون مع الرئيس الجديد لبحث حلول حتى للقضايا الأكثر صعوبة».
(السفير)