الحريري ولغة التسوية الرئاسية
غالب قنديل
حتى الساعة لم يتكيف رئيس الحكومة السابق المرشح للتكليف مع متطلبات التسوية التي قبل بموجبها بترشيح العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية وبانتخاب فخامته يوم الاثنين المقبل في نقلة نوعية ستكون لها تأثيرات كبيرة على الواقع السياسي وتوازنات السلطة وخيارات الحكم وحيث يرى كثيرون ان بانتظار الحريري مسافة ليست سهلة وبسيطة بين التكليف والتأليف ومخاض لاحق للبيان الوزاري عند العقدة التي واجهت سائر الحكومات منذ اتفاق الدوحة إلى اليوم والفارق انه في قصر بعبدا سيكون زعيم وطني وشعبي يؤمن بالمقاومة وبالشراكة بينها وبين الجيش من موقع علومه وخبرته كقائد سابق للجيش وبقوة وعيه الوطني السيادي وهو شاطرها رؤيتها للمعادلة الذهبية التي سمحت بانتصارها الكبير في حرب تموز حين كان الرئيس ميشال عون نصيرها البارز والصلب وكان الرئيس نبيه بري المفاوض المفوض من قيادة المقاومة بدقة وبراعة ساهمت في رسم معادلة النصر التاريخي للبنان وقد كانا أي الرئيسان ميشال عون ونبيه بري آذناك يخوضان المعركة السياسية الداخلية دفاعا عن الوطن في وجه معظم الطبقة السياسية التي كان يديرها الأميركي والسعودي بواسطة جيفري فيلتمان وبندر بن سلطان .
هذا الاختلاف الجوهري في خيارات رئيس الجمهورية سيكون حاضرا في سائر محطات التشكل السياسي لصورة العهد من باب مباديء وثقافة ونهج الرئيس ميشال عون وليس فحسب من زاوية مبادلة الوفاء مع حزب الله والسيد حسن نصرالله الذي صمم على دعم ترشيحه متحديا جميع الضغوط الداخلية والخارجية متجاوزا إحراجات صعبة مع حلفاء وشركاء مقربين كالرئيس بري والوزير سليمان فرنجية .
كرس السيد الحريري في خطاب انتقاله إلى دعم ترشيح الجنرال عون نصه السياسي لمهاجمة حزب الله وهو بذلك اظهر تصميما على مواصلة لالتزام بلغة سياسية وبمواقف كلفته التدحرج في خياراته الرئاسية من الدكتور سيمر جعجع حتى لحظة إعلانه دعم ترشيح الرئيس العتيد فقد كان يتخبط في مازق نهجه السياسي المبني على اوهام كثيرة في مجابهة المقاومة وفي الرهان على إسقاط الدولة الوطنية السورية ولم يكن الأمر بحثا عن المخارج اللبنانية الممكنة بل عنادا في وجه معادلات موضوعية قاهرة اضطر للرضوخ إليها وهو لا يريد إعادة النظر حتى الساعة بمنطق المجابهة الذي سلكه مراهنا على حلفائه الخارجيين أي بالذات على المحور الأميركي السعودي ومن هذا الباب جدد رهانه على إخراج حزب الله من سورية ولو لم يقلها صراحة فاستحق الأمر تأكيدا من السيد نصرالله على انه لا عودة للمقاومين من هناك إلا بالنصر الحاسم على قوى التكفير الإرهابية ومن يقف خلفها دوليا وإقليميا .
يحتاج الرئيس الحريري إلى مزيد من الواقعية ليستطيع هضم التغييرات الكبرى الحاضرة فالولايات المتحدة فشلت مع جميع حلفائها وادواتها في النيل من سورية ورئيسها والمقاومة بشراكتها مع الجيش وسائر المؤسسات الأمنية الوطنية هي الصانع الرئيسي للاستقرار اللبناني الذي يسمح لجميع القوى السياسية بالتعبير والتحرك بمن في ذلك خصومها يتقدمهم تيار المستقبل وحزب القوات ومعادلة الاستقرار تلك تسمح لمجلس النواب بالانعقاد والاقتراع وهذا الواقع ما هو إلا ثمرة تضحيات حزب الله في سورية وحيث كان الرئيس الحريري في مواقع مضادة ومعاكسة على طول الخط وهو وحلفاؤه من خصوم حزب الله لنجدهم يحصدون نتائج تضحيات الحزب وجهوده ويتنكرون لها في خطابهم السياسي بدءا من نجاح المقاومة في ردع إسرائيل .
الجبروت الأميركي يتراجع وليست المسألة مجرد انشغال الإدارة في المعارك الانتخابية فالانكفاء حاصل بفعل تراجع القدرة ونتيجة للفشل في سورية والمنطقة اما المملكة السعودية فحدث ولاحرج ويمكن للشيخ سعد قبل سواه ان يعاين من داخلها كثيرا من نتائج وتداعيات الحروب الفاشلة في اليمن وسورية والعراق وليبيا حيث دعمت الرياض جماعات الإرهاب وورطت الحريري وفريقه في جانب من هذا الدعم خلال السنوات الأولى للعدوان على سورية والرئيس الحريري يستطيع ان يعاين آثار انتهاء الفورة النفطية واستنزاف ثروات المملكة وقدراتها وجنوحها نحو التقشف بعد زمن الوفرة الذي لم تحسب فيه لأيام صعبة بدات وهو من موقع ازمة شركاته يستطيع تلمس حقيقة ان المشكلة اكبر من الهدر المنسوب إلى إدراة اوجيه بعدما دخلت المملكة مرحلة شد احزمة مواطنيها وخنقهم بالضرائب والرسوم وخفض الرواتب والاقتراض الخارجي بما لم يسبق له مثيل منذ اكثر من نصف قرن .
إذا أراد الشيخ سعد الحريري التكيف مع التسوية الرئاسية عليه ان يراجع تلك الحسابات كلها وان يراجع كل ما تبناه من خيارات اقتصادية اجتماعية وسياسية في السابق وقبل أي شيء آخر تقتضي التسوية الرئاسية تكيفا مع قواعد الدستور ومباديء الشراكة الندية في اتفاق الطائف كما وردت في النصوص وليس كما تكرست بتقاليد الحكم.
إنه التحدي الكبير الذي تتوقف عليه الكثير من المعطيات السياسية فالشيخ سعد يعرف ان التقرب من التيار الوطني الحر لا يستقيم مع الاستمرار في التحريض على حزب الله وان استثمار مساندة الحزب لحليفه الكبير في التقاط فرصة العودة إلى السراي لا يعفي رئيس الحكومة المرشح من تغيير النظرة إلى الحزب ودوره الوطني الحاسم والبناء ومن تبديل اللغة التي يتناول بها هذا البعد الرئيسي في الحياة الوطنية بالتعامل مع أهم خطرين يتربصان بلبنان التهديد الصهيوني والاستهداف التكفيري الإرهابي.
بعد المخاض الرئاسي ستكون الكرة في مرمى الشيخ سعد الحريري فإن صمم على مواقفه السابقة دون إعادة النظر بعد كل ما حصده من خسائر سياسية ومعنوية سيصطدم بالجدران المنيعة ويعرض البلاد لمزيد من المعاناة وكلما عجل في التكيف والمراجعة يستطيع ان يوفر ازمات ومطبات جديدة.