معركة الموصل: الفصل الأميركي لمسارح العمليات عبد الله سليمان علي
استبقت الولايات المتحدة معركةَ الموصل بحدث سوري في غاية الأهمية، قد يكون مؤشراً على ما يدور في العقل الأميركي لجهة الربط بين المعارك التي تقودها ضد تنظيم «داعش» على ضفتي «الخلافة»، سوريا والعراق، وكيفية استثمار هذا الربط لتحقيق هدفين أساسيين هما: توسيع نفوذها في كلا البلدين، وتوظيف التنظيم الإرهابي لاستنزاف خصومها. وتُثبت كثافة القوافل التي بدأت بنقل قادة وعناصر «داعش» وعائلاتهم من الموصل إلى سوريا أن الخطة الأميركية بدأت تعطي مفاعيلها.
سلسلةٌ متواصلة من الغارات الجوية التي نفذتها طائرات «التحالف الدولي» بقيادة واشنطن، خلال الأسابيع الماضية، وأفضت إلى تدمير ما بقي من الجسور على نهر الفرات، كانت كفيلةً بتمزيق جسد «داعش» في سوريا إلى قسمين، الأول شمال نهر الفرات ويسمى الجزيرة ومركزه الرئيسي الرقة ومحيطها وما يتصل بها من ريف دير الزور الشمالي، والثاني جنوب نهر الفرات، ويُطلق عليه اسم «الشامية»، وهو يضمُّ القسم الأكبر من دير الزور. وفي هذا القسم، توجد غالبية التجمعات البشرية التي تشكل الحاضنة الشعبية للتنظيم. بالإضافة إلى ذلك، كانت واشنطن قد عززت من وجودها في بادية المالحة شمال دير الزور القريبة نسبياً من طريق «داعش» بين العراق وسوريا الذي يمر في بلدة مركدة.
وقد جاءت خطة تحرير الموصل القائمة على مبدأ «الصندوق المفتوح»، أي محاصرة المدينة من ثلاث جهات مع ترك منفذٍ من الجهة الغربية المفتوحة على الحدود السورية، بما يسمح لقادة ومقاتلي «داعش» الانسحاب والتسلل إلى سوريا عبر مركدة، كي تُكمل صورة السبب الكامن وراء تدمير جسور نهر الفرات، وتوضح الغايات البعيدة التي تُحفزُّ العقل العسكري الأميركي على التخطيط والعمل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن واشنطن كانت في معاركها الأخيرة ضد تنظيم «داعش»، خاصةً في منبج والرمادي والفلوجة، تتبع سياسة «الدائرة المغلقة»، أي العمل على محاصرة المدينة التي تُهاجمها من جميع الجهات دون أن تترك أي منفذٍ لعناصر التنظيم للهرب منه إلا في اللحظات الأخيرة من المعركة، كما حصل في منبج. وبالتالي فإن هذا التغيير في الخطط وراءه ما وراءه.
سياسة «الصندوق المفتوح» لم تكن سوى تعبير عن رغبة أميركية لرؤية قوافل وأرتال «داعش» وهي تنسحب من العراق، بما يتيح لها إعلان نصرٍ قابلٍ للاستثمار إعلامياً وانتخابياً، على أن تتجه هذه الأرتال نحو سوريا التي سبق لواشنطن أن مهّدت أرضيتها عبر تقسيم مناطق «داعش» إلى قسمين لتكون مناسبة لاستكمال تحقيق هدفها المتمثل باستنزاف خصومها.
وليس كل ذلك سوى تطبيق حرفي لخطة «الفصل بين مسارح العمليات» التي تحدثّ عنها وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر في 27 تموز 2016، أمام مجموعة من الضباط في قاعدة «فورت براغ» في شمال كارولينا، عندما قال «سنستمر بالسعي بشكل شرس للضغط على داعش في جنوب سوريا لإكمال جهودنا الحالية في شمال شرق سوريا استكمالاً لاستراتيجية فصل مسارح العمليات في سوريا والعراق». فهذه الاستراتيجية تعتمد على تمزيق جسد «خلافة داعش» عبر قطع الصلة بين المدن الكبرى والمدن الصغرى، وفتح جبهات متعددة من المحيط، ثم مهاجمة المدن الكبرى.
ويبدو تنظيم «داعش» وهو يسير وفق المخطط الأميركي وكأنه مجرد أداةٍ من أدوات هذا المخطط أو مجرد عبد مأمور، لكن الحقيقة أنه لم يعد يملك الوسائل للتمرد على المخطط، ووجد نفسه مضطراً للالتزام به لأنه خريطة الطريق الوحيدة المتاحة أمامه. وهو ما يُفسرّ أن التنظيم وضع القسم الأكبر من قواته في الجانب الأيمن من الموصل المتاخم للمعبر المفتوح له من جهة الغرب نحو سوريا، في دلالةٍ واضحة على أنه رضخ لمتطلبات الخطة الأميركية.
من هنا، بدأت أرتال «داعش» بالانسحاب من الموصل وتتجه نحو سوريا، كما هو مرسومٌ لها. وتشير المعلومات المتوفرة إلى وصول ما يقارب ألفي فرد من «داعش» وعائلاتهم، بينهم نحو 600 مقاتل بين عنصر وقيادي، إلى سوريا، وذلك خلال الشهر الذي سبق بدء معركة الموصل. وقد كان أضخم هذه الأرتال قبل أيام قليلة من بدء المعركة، وضمّ نحو 25 سيارة وعشر شاحنات كبيرة حطّت رحالها في مدينة دير الزور قبل أن يغادر قسمٌ من هؤلاء إلى الرقة، حي الرميلة تحديداً، بحسب حملة «الرقة تذبح بصمت».
ونتيجة الأزمة المالية التي يمرُّ بها تنظيم «داعش»، ونظراً لكثافة الهاربين من الموصل إلى سوريا، فقد بدأ بعض النشطاء من أهالي المدينة يتحدثون عن انعكاسات هذا الانتقال على الحالة الاقتصادية للمدينة، مشيرين بشكل خاص إلى تسببها بزيادة ملحوظة في أسعار المواد الغذائية، بل انقطاع بعض المواد بسبب ارتفاع الطلب عليها وعدم توفرها بكميات كبيرة، وهو ما يشير إلى أن عدد هؤلاء ليس قليلاً ولا يمكن الاستهانة به.
ومن المتوقع أن يرتفع أعداد الهاربين مع تقدم العملية العسكرية في الموصل، ولا يمكن حالياً التكهن بالسقف الذي قد يصل إليه. غير أن المؤكد هو أن الجزء الأكبر من عناصر التنظيم سوف يجدون لأنفسهم سبيلاً لدخول سوريا في مرحلة ما من مراحل المعركة، ولو تحت غطاء اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية لحماية قوافلهم وأرتالهم.
وعلى الرغم من أن التنظيم لا يزال يحاول الإبقاء على صورة «دولته» من خلال إبراز مدينة الرقة كمعقلٍ أساسي له وعاصمة بديلة، جميع الشهادات والمعطيات تؤكد أن الجزء الأكبر من الهاربين من الموصل، سواء أكانوا مسلحين أم عائلات، يتمركزون في دير الزور ولا يسمح لهم بالتوجه نحو الرقة باستثناء القيادات. بل ثمة معلومات حصلت عليها «السفير» من مصدر في الرقة تؤكد أن «داعش» أرسل جزءاً من قواته وعتاده الثقيل وأجهزته ومعداته إلى مناطق دير الزور الكائنة جنوب نهر الفرات.
والتفسير الوحيد لهذه الخطوة هو أن التنظيم قرأ الخطة الأميركية وفهم المغزى منها. كما أدرك أن معقله في الرقة سيكون الهدف التالي. ونتيجة علمه أنه لن يكون بمقدوره الدفاع عنه، خصوصاً في حال تشكيل تحالف ضخم للهجوم عليه يضمُّ واشنطن وأنقرة ودولاً أخرى، بالإضافة إلى «وحدات حماية الشعب» وفصائل «الجيش الحر» إذا حصل توافق معلن أو غير معلن على ذلك، فقد رأى التنظيم أن أكثر المناطق أماناً بالنسبة له هي تلك الواقعة جنوب نهر الفرات، لا سيما أنه لا توجد حتى الآن قوة برية قادرة على مهاجمة تلك المناطق.
علاوة على ذلك، فإن التمركز في تلك المنطقة، وهي منطقة شاسعة وتحوي حاضنة التنظيم المخلصة له، سيتيح لمقاتلي «داعش» التوجه غرباً وجنوباً، أي حتى الحدود الأردنية وحتى مدينة تدمر حيث توجد قوات روسية وسورية، وهي المنطقة التي قصدها وزير الدفاع الأميركي عندما تحدث عن هجوم من الجنوب. وينبغي هنا التذكير أن عناصر التنظيم الذين ينسحبون من ريف حلب الشمالي بفعل تقدم «درع الفرات» في مناطق سيطرتهم يتجهون نحو ريف حماة الشرقي، كما أن التنظيم يقود منذ شهر تقريباً معارك ضارية ضد «جيش الإسلام» وحلفائه في منطقة القلمون الشرقي، وسط تأكيدات من بعض النشطاء أن التنظيم ما زال يحشد باتجاه تلك المنطقة.
هذا يعني أن التنظيم سيعمل في المرحلة المقبلة وفق خطةٍ تهدف إلى محاولة السيطرة على الجزء الأكبر من البادية السورية وتجهيزها لتكون أرض «دولته» أو ما تبقى منها، مع العمل على ربطها بالصحراء العراقية التي سيبقى له وجودٌ فيها حتى بعد هزيمته في الموصل لتعذّر تغطيتها عسكرياً كيفما كان.
ولا شك في أن إمساك التنظيم بجزء من الأرض بغض النظر عن طبيعته الصحراوية القاحلة، سيكون كافياً بالنسبة له لتدعيم نظريته بأن القضاء عليه غير ممكن، وليس مهماً بعد ذلك أن يكون كل ما في قبضته مجرد حفنة من الرمال.
لكن هذه الخطة ستدفعه للاصطدام بالقوى الموجودة على أطراف «دولته» وهي في غالبيتها من الجيش السوري وحلفائه. وهو ما يؤكد الشكوك بأن الهدف النهائي لواشنطن من وراء خطة «الصندوق المفتوح» هو دفع التنظيم لإشعال حرب استنزاف ضد روسيا والجيش السوري لوقت طويل، واستخدامه بالتالي ورقةً من أوراق الضغط العسكرية، لعلها تعوض قليلاً عن عجزها عن النزول بقواتها على الأرض لمنافسة النفوذ الروسي المتصاعد في سوريا.
(السفير)