ثالوث الدولة اللواء عباس ابراهيم
رغم الاضطرابات التي تعصف بالمنطقة وتؤثر على لبنان في كل الاتجاهات، فإن الوضع لا يزال مستقرا إذا قيس بحجم الاهوال والمناكفات والتجاذبات، ثم التسويات الاقليمية والدولية التي تسود المحيط. يمكن القول ان متانة الوضع نتاج لصيق باقتناع اللبنانيين واصرارهم على النجاة بدولتهم من حرب ضروس، كانوا قد ادركوا ويلاتها وجربوها، وإنها لا تفضي الا الى العبث والموت والتردي والخسائر التي لا تعويض لها ولا عنها.
يتميز هذا الاقتناع بأنه ينطلق من ان كل المكونات اللبنانية وقواها هي التي تحول حتى الآن دون تحوّل الوطن الى ساحة للآخرين وصراعاتهم وبقاء الدولة، وإن في حال من الهشاشة أحيانا جراء الفراغ الرئاسي والشلل المؤسساتي.
لم يكن للبنان ان يستمر في وجه العواصف القاسية لولا ثالوث الدولة المتماسك: الأمن، القضاء، وقوة اقتصادية بدأ صوت أنينها يرتفع. لكن ما تقدم لا يلغي في حال من الاحوال ان مؤشر منسوب الضغوط يرتفع بلا هوادة على المؤسسات الدستورية والعسكرية والامنية، وعلى الانشطة الاقتصادية والتوازنات الاجتماعية بسبب الانقسامات والتشنجات الحادة التي تتخذ سمة تشددية، وبعضها من طبيعة انفجارية. ناهيك بالعوامل الخارجية التي ليست خافية على أحد، ولا تحتاج الى جهد وعناء لتعيينها وتحديد آثارها.
تقوم الدول في المبدأ من اجل الانسان وصالحه. اما بقاؤها واستمرارها وتطورها يبقى رهن العقل والضمير بوصفهما أقدس الأمور عند الانسان. هما يخولانه ان يكون حرا، وذاك كان واحدا من المبادئ الاساسية التي اقترحها الراحل الكبير شارل مالك كمرتكز لفلسفة الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1947. بهذا المعنى، فإن العقلانية والضمير الوطني المتجاوزين للشعبوية والاستقطابات السياسية، هما اكثر ما يحتاج إليه لبنان راهنا ومستقبلا، كي يبقى كما هو وطنا ورسالة، وقبل كل شيء دولة قادرة وعادلة. ذلك انه في ما لو سارت الامور عكس ذلك، وسقط الجميع في شرك الاصطفافات والاستقطابات على حساب الدولة ومناعتها الامنية والقضائية والاقتصادية، لن يكون لنا إلا ما خبرناه مديدا من أزمنة الحروب والازمات. وتاريخنا الحديث ينضح بالتجارب المؤلمة التي وضعت البلد وكل مكوناته على حد الانهيار الجماعي. فالنار ان شبت ستأتي على الجميع، ولن يكون في منأى عنها احد انى كانت اوهامه واحلامه.
في الماضي القريب، انفجر البلد يوم سقط فيه الأمن والقضاء كضمانين اساسييين للجميع من دون تمييز او استثناء. طبعا من دون ان نهمل الاسباب الاقليمية والدولية التي استفادت من عوامل داخلية سياسية واجتماعية. من دون ان يعني ذلك ان لبنان كان جنة للعدالة الاجتماعية ونموذجا للسياسات التنموية. لا بل العكس، كانت هناك مطالب محقة تتعلق بإهمال مناطق كثيرة من لبنان وحرمانها، من كل المكونات الروحية والثقافية والفكرية.
لكن ما يحصل الآن بالغ الحراجة والخطورة. الاسباب الاقليمية والدولية تتكثف ومعها العناصر الداخلية التي تزداد ترديا لجهة ضعف المؤسسات الدستورية ومحاولة قفز البعض فوق القانون. كما ان حالات الاستنزاف والتراجع في المؤشرات الإقتصادية والمالية تستمر في الانحدار، والبطالة ترتفع معدلاتها، فيما الامور الحياتية مهملة، والوجع يصيب الجميع، والصراخ ينبعث من الجميع ايضا. هنا بالتحديد تتبدى أهمية المداميك الثلاث التي تحمي الدولة، وهي الأمن والقضاء والاقتصاد:
• صلابة الامن ومصداقيته.
• اخلاقية القضاء وعدالته.
• الثقة بالنقد ومتانته.
وهذه هي التي تنقذ الوطن من الصفقات والفساد والاخطار، وتنجّيه من التسويات الكبرى التي تنعقد على سقوط الحدود في كل الاقليم، في مقابل تصاعد خطرَي الارهابَيْن التكفيري والاسرائيلي. وهما خطران يطاولان كل مكونات المنطقة بلا استثناء لأي مكون، ولا ينفع ف مواجهتهما إلا التمسك بمنطق الدولة وليس بالهويات الضيقة او أوهام الاقلية والاكثرية.
هنا بالتحديد أهمية العقلانية السياسية، ووجوب التمسك بمنطق الدولة الديموقراطية البرلمانية التي تقوم على احترام الحريات العامة، وعلى العدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع، والابتعاد عن الصبيانية والشعبوية لتحقيق أحلام يبقى أمر مشروعيتها رهن بالتزامها الاساليب والوسائل الديموقراطية، وليس الاستثمار في العصبيات المذهبية التي هي أخطر ما يمكن تصوره على لبنان.
بقاء اللبنانيين أسرى الهواجس لا يعني سوى البقاء في ما نحن عليه من وضع حرج. والارتقاء الى المواطنة بما هي خضوع طوعي للقانون، توجب قبل اي شي التحرر من الهواجس واستغلالها السخيف في تجمع من هنا او لقاء من هناك.
اذا صح ان الجميع متمسك بالدولة ويرفض التهور والمغامرات والرهانات الشخصية على حساب اللبنانيين، فهذا يعني ان المطلوب متابعة صون الاستقرار والنأي به عن التجاذبات والمبارزة على كثرة الاستقطابات، ووفرة ساحاتها. امور لا تتحقق الا بتوفير الدعم الحقيقي والصادق للمؤسسات الامنية الرسمية في حربها على الارهاب ومواجهتها العدو الاسرائيلي، الحريصة على استقرار لبنان والملتزمة ضمان امنه.
لكن هذا يتطلب الاحتكام الى العلاقة العضوية ما بين حقوق الانسان وحكم القانون والقضاء. فلا يمكن أن تقوم دولة، ولا ان تتحقق عدالة، من دون ضمانة القضاء المستقل والقوي الذي يقوم على الادارة السليمة في المحاكم والنيابات كما في اجهزة التفتيش والرقابة، من أجل حماية الدستور، وقيام المجتمع الآمن المحكوم بالقانون والملزم للجميع على حد سواء من دون امتيازات. انها اولويات تتصل بتحسين المستويات الاجتماعية، وتحصين الامن، وتخفيف حدة الاوضاع الاقتصادية، ومعالجة مشكلة البطالة التي صارت ظاهرة بسبب الاوضاع العامة حينا والايدي العاملة المنافسة احيانا، ناهيك بوجوب معالجة ابسط مقومات الحياة في كل المجالات.
كلما تعزز ثالوث الدولة ونجح في منع الانهزام امام الاغراءات، يتمكن اللبناني من الصمود في وجه الخوف والوهن والاستسلام”.
افتتاحية مجلة ” الامن العام” رقم 37 الصادر في 6 تشرين الاول 2016