مقالات مختارة

تركيا في الموصل: الحدود المسكونة بالتغيير محمد نور الدين

 

من أهم المواقف، وفي الوقت ذاته أكثرها خطورة في الآونة الأخيرة، تلك التي خرج بها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في 29 أيلول الماضي، أي قبل سبعة أيام فقط، والتي لم تحظ باهتمام في وسائل الإعلام الخارجية، فيما خضّت المشهد التركي الداخلي على مدى أيام.

اعتبر اردوغان معاهدة لوزان في العام 1923، التي رسمت معظم حدود تركيا الحالية، «هزيمةً وليست نصراً» لتركيا. كان بذلك يُريد أن يُغيّر النظرة «المُقدّسة» إلى لوزان، باعتبارها إنقاذاً لتركيا من اتفاقية «سيفر» في العام 1920 التي قسّمتها.

لم يكن هناك أي مناسبة لكي يُعلن اردوغان مثل هذا الموقف. لكنّه أتبعه بالهجوم على اليونان، عندما اعتبر ضمّ الجزر الـ12 في بحر ايجه (القريبة جداً من السواحل التركية) الى اليونان من تركيا، بأنه تفريطٌ بسيادة الدولة والوطن القومي التركي، قائلاً إن «من يصرخ من على الساحل التركي يُسمع صوته في الجزر الـ12».

في اليوم التالي، ردّ عليه رئيس الوزراء اليوناني اليكسيس تسيبراس بالقول إنها تصريحات «خطيرة».

كلام اردوغان عن «لوزان» جاء في لحظة إقليمية و «قومية» تركية بامتياز. للمرة الأولى منذ مئة عام، تدخل تركيا بقواتها إلى سوريا. وللمرة الأولى منذ مئة عام، تدخل تركيا قبل سنتين إلى بعشيقة في العراق وتتمركز هناك.

في لحظة تفتّت المنطقة وتعميم الفوضى ونزيف أنهار الدم وإعداد خرائط التقسيم، ينبري كلُّ طرفٍ إلى استغلال الفرصة، علّ قطعة من قالب جبنة التقسيم والمصالح تكون من نصيبه. وتركيا أحد الأطراف الأكثر علانية في إشهار التطلّع إلى أراضٍ خارج حدودها، لأسباب تاريخية. تتحرّك تركيا وفقاً لموروث تاريخي لا يزال حياً على الرغم من العديد من الاتفاقيات الدولية المُلزمة منذ مئة عام وحتى اليوم.

إلى المسعى الدائم لإسقاط النظام السوري، والذي لم تُغيّر منه «استدارة» مزعومة وخادعة، وإلى هدف منع قيام «كوريدور» كردي على امتداد حدودها الجنوبية، فإن تركيا تتطلّع إلى «استعادة» شمال سوريا الذي كان ضمن خريطة ميثاقها المللي في العام 1920، وفي القلب منه مدينة حلب. إن لم تنجح مباشرة، فعلى الأقل من خلال إقامة منطقة نفوذ في الشمال السوري أساسها تركماني وسنّي، عبر وكلاء لها مثل ما يُسمى «الجيش السوري الحرّ». ما تعمل له تركيا الآن هو إقامة شريط حدودي مُشابه تماماً لشريط انطوان لحد في جنوب لبنان على قاعدة أن أبناء العمّ يفهمون بعضهم على بعض ويتبادلون الخبرات.

من هنا، فإن تركيا لن تنسحب من هناك، إذا ما انسحبت، إلا بعد أن تنتزع من الحكومة السورية وحلفائها ترتيبات أمنية تُغيّر من هوية المنطقة الوطنية والسيادية. وهو ما يضع «غضّ النظر» الروسي – الإيراني – السوري عن دخول تركيا واحتلالها الشمال السوري خطأ استراتيجياً كبيراً نتيجة رهان على تحوّلات لدى اردوغان، سرعان ما تبيّن أنها أكثر من وهمية، ولا تعكس فهماً للمنظومة الإيديولوجية لحزب «العدالة والتنمية».

أما في الموصل، فإن المسألة أكثر وضوحاً في أهدافها وفي خلفياتها.

1ـ الموروث التاريخي:

جاء كلام اردوغان عن جزر بحر إيجه ليُصوّب الوجهة نحو الموصل. الكلام عن إيجه، لكن العين على الموصل.

يلفت اليوم الحبرُ الكثير الذي يسيل في الصحافة التركية، كما على لسان المسؤولين، عن الحقّ التاريخي لتركيا في الموصل، ومن ضمنها كركوك. يستدلّون على ذلك بالقول إن اتفاقية 1926 بين تركيا وانكلترا والعراق قد جعلت تركيا تتخلّى عن ولاية الموصل في مقابل بقاء العراق دولة واحدة مُوحّدة. وقد نزل إلى الميدان في هذا النقاش مؤرخون لم يتورّعوا عن تأكيد ذلك.

وضع قادة حزب «العدالة والتنمية» التدخّل التركي في الموصل في إطار تاريخي يعكس عمق المطامع التركية في شمال العراق.

أولاً، ليس هناك في اتفاقية 1926 أي عبارة حتى في النصّ التركي تربط بين التخلّي عن الموصل ووحدة العراق. وبالتالي، هذا زعم لا أساس قانونياً له. مع ذلك لم ترف عين الأتراك عن التطلّع إلى الموصل التي باتت عقدة النظام السياسي التركي.

عشية حرب الخليج الثانية في العام 1991، كان الرئيس التركي طورغوت اوزال يقول إنه إذا كان صدام حسين يقول إن الكويت محافظة عراقية، فإن العراق كله كان تابعاً لتركيا. وعشية تلك الحرب، كان اوزال يدعو رئيس حكومته يلديريم آقبولوت ورئيس أركانه نجيب طورومتاي إلى تحضير الجيش التركي لدخول شمال العراق واحتلاله وإقامة فدرالية تركية مع شمال العراق. لكنّهما عارضا الفكرة لأكثر من سبب.

وفي العام 1994 كان الرئيس التركي سليمان ديميريل يتحدّث عن ضرورة تعديل خط الحدود التركية – العراقية لأسباب أمنية ويشير إلى الموصل على أنها «تابعة لتركيا».

وفي العام 2004، كان وزير الخارجية التركية عبد الله غول يتحدث عن أنه «إذا تقسّم العراق، فإن لتركيا حقوقاً تنجم عن ذلك» في إشارة إلى ولاية الموصل.

وعندما أقرّ النظام الفدرالي في العراق، قال غول: «لقد سلّمنا الموصل إلى عراق مُوحّد». ولسان حاله الساطعة أنه بما أن العراق لم يعد موحداً، فإن لتركيا الحقّ باستعادة الموصل.

2 ـ راعي السنّة:

النقاش التاريخي حول ذلك أتبعه اردوغان ورئيس الحكومة بن علي يلديريم ونائب رئيس الحكومة نعمان قورتولموش حول ضرورة عدم تغيير هوية الموصل الديموغرافية، سواء العرقية أو المذهبية بالقول علانية إن «الميليشيات» الشيعية يجب ألا تدخل المدينة ويجب أن تبقى سنّية. بالطبع هو خطاب يُناقض نفسه عندما لم يُحرّك الأتراك ساكناً قبل سنتين حين تعرّض تركمان تلعفر لمجزرة من «داعش». وعلى الرغم من أن الضحايا من التركمان، لكن شيعيتهم حالت دون إبداء تركيا حرصها على أبناء عمومتها من التركمان.

تُصرّ تركيا على إبقاء قوّتها في بعشيقة ليكون لها يد في تحرير الموصل، وبالتالي حصة على طاولة المفاوضات. وفي ظلّ التحالف الأردوغاني مع مسعود البرزاني وأثيل وأسامة النجيفي، فإن العين هي على إقليم سني ترعاه تركيا وتكون حاميته، كون تركيا هي الأنسب لذلك بسبب الحدود الجغرافية المجاورة. وهذا هدف له قواعده البشرية وحاضنوه في العراق وفي المناطق السنية. وإذا تحقّق ذلك، فإن تركيا ستكسب أفضلية وتفوقاً في صراع النفوذ مع إيران ومع السعودية ودول الخليج.

3 ـ الصراع مع حزب «العمال الكردستاني»:

أدخل الدور الكردي في سوريا عاملاً جديداً على المعادلات الإقليمية. فحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي بزعامة صالح مسلم يجمعه مع حزب «العمال الكردستاني» مشترك إيديولوجي واحد هو الفكر الأوجلاني. وهذا يدقّ ناقوس الخطر في تركيا بحيث تكون مُحاطة بهذا التيار في الداخل ومن الجنوب في سوريا. وهذا كان من أهم أسباب التدخّل العسكري التركي في سوريا.

أما في العراق، فإن التطوّرات العسكرية عرفت متغيّرات ميدانية حيث بات لحزب «العمال الكردستاني» وفقاً لمصادر إعلامية وجود في جبال سنجار (شينغال) الواقعة على الحدود بين العراق وسوريا. وتركيا لا تُريد أن يكون سنجار «جبل قنديل ثانيا» لها.

مُشاركة تركيا في حرب الموصل ورفضها مشاركة أكراد حزب «العمال الكردستاني» في المعركة يهدف إلى قطع الطريق على تثبيت الحزب وجوده هناك والعمل تالياً على إلغائه وحتى لا يؤسّس الحزب ممراً برياً بين العراق وسوريا لعناصره. وفي هذا المسعى، تجد تركيا في مسعود البرزاني خير نصير لها كونه عدواً أول لدوداً لعبدالله أوجلان.

4 ـ نفط كركوك والموصل:

تلف تركيا عقدة أنها دولة غير نفطية وتتحسّر على إبرام اتفاقية العام 1926 الذي أفقدها نفط الموصل وكركوك. لذا، فإن الحصّة التركية من طاولة المفاوضات لاحقاً تأمل أن تكون من نفط كركوك ومن نفط ولاية الموصل.

يلفت هنا في سياق كل هذه المعمعة التصريحات المتتالية من واشنطن المعارضة لدور تركي في الموصل. فتارة يقول متحدث أميركي إن تركيا ليست جزءاً من قوات «التحالف الدولي» لتحرير الموصل. وتارة، يقول المتحدّث الأميركي باسم مكافحة إرهاب «داعش» إن القوة التركية في بعشيقة لم تأخذ إذناً من حكومة بغداد وبالتالي هي غير شرعية. ومرّة طالب نائب الرئيس الأميركي جو بايدن تركيا بسحب قوتها من بعشيقة. ولعلّ هذه المواقف تعكس الرغبة الأميركية بعدم إعطاء تركيا دوراً مركزياً في العراق في ظلّ قرار تركيا السابق بعدم المشاركة في غزو العراق وبقائها بعيداً عن المشهد العراقي، وهو ما أزعج أميركا حينها كثيراً. كذلك، فإن واشنطن لا تُريد استبعاداً كاملاً لدور مقاتلي حزب «العمال الكردستاني» (وتالياً قوات الحماية الكردية السورية) في معركة الموصل وهم الذين كان لهم دور في تحرير نصف سنجار وردّ الخطر، مع الإيرانيين، عن اربيل. كما لا تُريد لحسابات إيرانية أن يكون لتركيا أي دور مؤثر في العراق. مع ذلك، فإن «غضّ النظر» الأميركي عن معسكر بعشيقة يعكس السياسات الأميركية التي تُحاول الاستفادة من عوامل مُتعدّدة توظّفها في لعبة الضغوط في أكثر من اتجاه.

بعشيقة أولاً

تُراهن أنقرة على أن المتغيّرات الكبرى، ومنها إعادة ترسيم الحدود الجغرافية أو حدود مناطق النفوذ في المنطقة وفي العالم، لا تأتي إلا بعد حروب كبرى وانهيار الدول المركزية. ومنطقة الشرق الأوسط تشهد اليوم، ومنذ سنوات، حالة شبيهة بذلك تفتح على كل الاحتمالات.

مع ذلك، فإن إعادة إسقاط الماضي، كما هو قبل مئة عام، على راهن تغيّرت سجّادته ولاعبوه يُمكن أن يُفضي إلى نتائج عكسية، خصوصاً إذا نجح محور الممانعة والمقاومة في الخروج من خديعة اردوغان في جرابلس والردّ عليه في الموصل. وهذا ربما من أبرز أسباب «الانتفاضة» الحكومية العراقية المُفاجئة ضدّ مُعسكر بعشيقة وتركيا وفي مجلس الأمن. لقد كان التقاعس الحكومي السابق والمعروفة ظروفه، سبباً لتثبيت ركيزة الوجود العسكري التركي في بعشيقة وغير بعشيقة.

إن أكبر خطأ يرتكبه العراقيون أن يسمحوا لتركيا، تحت أي ظرف من الظروف، بالمشاركة في معركة الموصل، أو أن يسمحوا لها أن تبقى هناك ثانيةً واحدة. بل إن تحرير بعشيقة أولاً قبل الموصل هو الشرط الضروري لتحرير الموصل لاحقاً. وخلا ذلك، فإن العراق سيكون أمام اتفاقية 1926 بالمقلوب ولات ساعة مندم. وكل التطوّرات التاريخية على امتداد مئة عام وصولاً إلى اليوم عكست أن تركيا لا تحترم الاتفاقيات التي تُوقّعها ولا تعترف بما رُسم من حدود، وهي تنظر إليها على أنها غير ثابتة وغير نهائية وتنتظر الفرص دائماً لتغييرها من سوريا إلى الموصل وصولاً إلى .. بحر إيجه تمهيداً لرمي «لوزان» في سلّة المهملات.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى