واشنطن تُشهر وفاة التفاهم السوري مع موسكو محمد بلوط
خطوة نحو مواجهة روسية أميركية في الميادين السورية. بعد ماريا زاخاروفا ناطقة الخارجية الروسية، والوعيد برد مزلزل في ما لو تعرض الجيش السوري لاعتداء أميركي مباشر، البيت الابيض والخارجية الاميركية «يستقيلان» من السياسة مع روسيا في سوريا، ويغلقان قنوات التنسيق والتفاهم مع العسكريين والديبلوماسيين الروس، ويودعان «البنتاغون» والمخابرات الاميركية، الملف السوري.
حزب الحرب داخل المؤسسة الاميركية ربح الملف السوري وقيادة المرحلة الانتقالية نحو الادارة الجديدة، وباتت هيلاري كلينتون تفرض خياراتها على المؤسسات الحالية حتى قبل وصولها الى البيت الابيض. التصعيد سيد الموقف خلال الاشهر المقبلة، ولا شيء سواه، غير ان الاميركيين يتوترون لأنهم يخسرون جولة حلب.
البيت الابيض لم يعد لديه ايضا ما يتحادث حوله مع الروس بشأن سوريا، ناطقه جوش ايرنست علل ذلك بنفاد صبر الجميع من الروس. الخارجية الاميركية أغلقت غرف مراقبة الهدنة، المفترضة، في عمان وفي جنيف، والتي تجمع الضباط الروس والأميركيين. القرار الذي تولى الإعلان عنه جون كيربي ناطق الخارجية الاميركية، لم يفعل سوى دفن جثة الهدنة اصلا. والتعاون العسكري الوحيد في سوريا بين الروس والاميركيين لم يتجاوز تنسيق الازدحام السماوي بين مقاتلات الطرفين. أما غرفة عمان فلم يتجاوز عملها حساب الخروقات التي أصابت الهدنة.
الاميركيون بكل مؤسساتهم من البنتاغون الى البيت الابيض الى الخارجية، فوكالات المخابرات، أقفلوا «السياسة» السورية مع موسكو للاشهر المقبلة، بعد ساعات من تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا. المحاولة الاميركية الاخيرة لابتزاز الروس، ذهبت الى الزعم ان الروس لم يحترموا وقف الاعمال القتالية، التي كانت واشنطن قد أسقطتها بنفسها في دير الزور، كما أسقطت ايضا هدنة شباط السابقة عندما عوّضت المعارضة المسلحة عن خسائرها في جولة الغارات الشتوية الروسية، بسبعة آلاف طن من صفقات الاسلحة البلغارية والرومانية والاوكرانية التي جرى تسليمها للفصائل المسلحة، عندما كان الاميركيون يجالسون الروس في فيينا، ويوقّعون معهم الى جانب ممثلي 17 دولة من مجموعة الدعم الدولية، خريطة الحل السياسي.
الانسحاب الأميركي من الديبلوماسية في سوريا، فرضته ايضا المفاجأة بوجود استراتيجية اقليمية روسية واضحة في سوريا، والقرار الذي أطلق فور سقوط الهدنة في 12 ايلول، عملية جوية واسعة لتحطيم خطوط المجموعات المسلحة في حلب، أم المعارك في سوريا. ويصعب القول إنه جرى الإعداد لها في الساعات الاخيرة من احتضار الهدنة، نظرا لاتساعها وحجمها ونوعية الأسلحة المستخدمة، وتوجهها فورا الى حصار معاقل «النصرة» والمجموعات المتطرفة.
ويعكس الانخراط الروسي السريع، انعدام الثقة الروسية بالأميركيين، والاستعداد المسبق للتوجه نحو بدائل تقترب من الحسم العسكري، ومن خيارات دمشق الحقيقية، بمجرد اغتيال الاميركيين للهدنة والديبلوماسية. الاستعداد الروسي لانتزاع انتصار في حلب قد يتجاوز حدود الاستراتيجية الاقليمية، الى التصويب على الانتخابات الاميركية نفسها، ومحاولة انتزاع انتصار كبير، وحاسم في الميدان السوري، ينزع من رصيد المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. والرهان كبير اذا ما استطاع الجيش السوري، والإسناد الجوي الروسي تحدي الاميركيين وكسر إرادتهم فيها، وإلحاق هزيمة بالمجموعات التي راهنت عليها الادارة الديموقراطية الأميركية، قبل حلول تشرين الثاني، وإجراء الانتخابات الرئاسية، بعدما تحولت معركة حلب الى عنوان كبير في هذه الانتخابات.
نعي السياسة الأميركية في سوريا، يعكس انعدام وجود استراتيجية واضحة في سوريا، أو أي سياسة واقعية قابلة للتنفيذ، باستثناء ردود الفعل التي لا يمكن اعتبارها سياسة، بل مغامرات خطرة لن تكون آخرها عملية دير الزور. باستثناء استنزاف الروس وسوريا وحلفائها، الذي يعني قبل كل شيء مواصلة تدمير الموقع السوري، لا يطفو هدف جديد على سطح المواقف الاميركية المعلنة ولا بدائل سوى ردود فعل حيث قالت الخارجية الاميركية إنها تدرس «خطوات غير ديبلوماسية».
وحتى سياسة الاستنزاف التي تهدف الى إغراق الروس والسوريين في سلسلة متتالية من الهدنات، وتطويق أي عمليات عسكرية ناجحة للجيش السوري نحو المدن الكبرى التي يعني الوصول اليها الانتصار السوري الروسي المنتظر في حلب الشرقية، بغض النظر عن طريقة الوصول اليه، سواء كان بالحسم العسكري أو بتنويع الاستراتيجيات من الاختراق وتقسيم المدينة المحاصرة الى مربعات تجري مهاجمتها تباعا، أو تصديع الجبهة الداخلية، الذي بدأ العمل عليه، إلا أن انتصارا بهذا الحجم يفضي آليا الى تحرير جزء كبير من الفيلق الثالث السوري، حيث سيكون الجيش السوري قادرا على استعادة أكثر من ثلاثين الف مقاتل من بين المرابطين على جبهات حلب، لتفعيل عملياته على جبهات كثيرة اخرى، تزيد من زخم الهجمات، ضد المجموعات المسلحة، وتسمح له بالإعداد إعداداً أفضل لعمليات عسكرية في إدلب، أو نحو الشرق السوري، وتؤدي الى تقصير أمد الحرب السورية.
لا ينطوي ذلك على وقف الاستنزاف الاميركي وإحباط استراتيجياته فحسب، بل على استعادة المبادرة للمشاركة في ملء الفراغ الذي ستخلّفه هزيمة «داعش» المنتظرة في الموصل، ومن ثم الرقة أو دير الزور، وهو ما تحاول الولايات المتحدة الانفراد به لتقرير مستقبل سوريا. وما عمليات تدمير الجسور على الفرات، وحول دير الزور والميادين، وعقد المواصلات مع الرقة، التي لا تعرقل عمليات «داعش»، والتي تقوم بها طائرات «التحالف الدولي»، سوى محاولة لتأخير أي عملية اختراق قد يخطط لها الجيش السوري، للخروج من «سوريا المفيدة»، والتقدم نحو الحدود الدولية مع العراق.
أما مشروع القرار الفرنسي في مجلس الأمن الدولي، بفرض قرار لوقف إطلاق النار، فلن يكون له أي حظ بالمرور كما قال مساعد وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف، فضلا عن أنه يصدر عن طرف لم يوفر وسيلة في تسليح المجموعات الجهادية في الشمال السوري، وبكّر في ذلك مع اشتعال الحرب الأهلية في سوريا.
والراجح أن الاميركيين قد يذهبون الى رفع مستوى تسليح المعارضة المسلحة، بتزويدها بالمزيد من صواريغ الغراد الأبعد مدى مما ظهر في حماه وريف اللاذقية من 20 الى 40 كلم، لتهديد التجمعات السكانية الكبرى، والقفر فوق أسوار «سوريا المفيدة» التي بات الجيش السوري يحكم السيطرة على أكبر مدنها وأهم مراكزها، مع اقترابه من دخول حلب الشرقية. كما أن خيار تزويد المجموعات المسلحة بالصواريخ المضادة للطائرات، إن حدث، لن يغير شيئا في سير العمليات الحالية في حلب، ليس لإغلاق طرق الإمداد نحو المدينة فحسب، بل لأن كثافة الضربات من علو شاهق، وضيق المساحة التي تجري فيها العمليات يقللان من أهمية أي تعديل صاروخي في التسليح.
حلب الشرقية التي لم تسقط بعد بيد الجيش السوري، أسقطت الحرب من أجلها ما تبقى من تفاهمات روسية أميركية، وتتجه نحو المزيد من التصعيد أميركيا لاحتواء الاختراق الروسي الكبير في معارك حلب فوق جثة هدنة هامدة، حتى قبل أن تدخل حيز التطبيق عندما أطلق الأميركيون النار على رأسها في المذبحة التي ارتكبتها مقاتلاتهم بحق عشرات الجنود السوريين في دير الزور، لإسقاط المدينة بيد «داعش»، قبل أن يذهب الاتفاق بالأميركيين ليلة الثاني عشر من ايلول الى ما تجنبوه طيلة أشهر، وإكراههم على مواجهة «جبهة النصرة»، وضربها الذي يعني قصم ظهر المعارضة ومعها سياسة الاستنزاف الأميركية للجيش السوري وروسيا، وهو خيار ما كان لواشنطن أن تتجرع سمّه، فيما أبو محمد الجولاني لم يتوان خلال ثلاثة أعوام عن تصفية 16 فصيلا «معتدلا» ضم الآلاف من المقاتلين من الذين سلّحتهم أو درّبتهم وكالات المخابرات الأميركية، وبرنامج «البنتاغون» للعمل في سوريا، خلال خمسة أعوام.
وفي سياق متصل، رجح مصدر في اللجنة الخارجية لمجلس الدوما الروسي، أن تتم المصادقة على اتفاق حول نشر مجموعة جوية روسية في سوريا لأجل غير مسمى، يوم الجمعة المقبل، رداً على وقف واشنطن للمباحثات مع موسكو حول سوريا.
وأضاف المصدر «قد ترد الدوما بقرار التصديق على المجموعة الجوية في سوريا. وسيكون ذلك التصريح هو الأفضل».
وتم توقيع الاتفاق الحالي المؤقت بين روسيا وسوريا في دمشق يوم 26 آب، وعرض على مجلس الدوما من أجل التصديق.
(السفير)