مقالات مختارة

الحرب الأهلية في فتح نيري زيلبر

 

فورين آفيرز

29 أيلول/سبتمبر 2016

في ساعات الصباح الباكرة من 23 آب/أغسطس، أوقفت “قوى الأمن الفلسطيني” أحمد حلاوة. وفيما هو رهن الاعتقال، ضُرب هذا الرجل الذي يبلغ من العمر خمسين عامًا بوحشية حتى الموت. وتسبب هذا الحادث بضجة كبيرة في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، وهي مسقط رأس حلاوة؛ ونزل الآلاف إلى الشوارع في دفنه، منادين بشعارات ضد السلطة الفلسطينية ومتفادين الغاز المسيل للدموع الذي كانت تطلقه قوى الأمن. وتلف الشائعات والتلميحات الوقائع الخاصة بالأحداث التي قادت إلى مقتل حلاوة. فبحسب الحكومة، كان حلاوة “خارجًا عن القانون ومجرمًا” ومسؤولًا عن سلسلة من الجرائم، فهو مثلًا “العقل المدبر” لإطلاق النار على أربعة عناصر من “قوى الأمن الفلسطيني” في الأشهر الماضية. غير أن حلاوة هو بالنسبة إلى آلاف الأشخاص الذين كانوا يرثونه صاحب نفوذ محلي مسالم قيل إنه كان يجمع الأسلحة في جهد منه لتفادي حرب مكلفة بين العشائر.

وفقًا لأحد المصادر في رام الله، “إذا سألتَ عشرة أشخاص عن “قضية نابلس”، ستتلقى عشر إجابات مختلفة”. لكن يبرز أمران مؤكدان عن حلاوة هما: حتى يوم مماته، كان شرطيًا مضى وقت طويل على خدمته في جهاز الأمن نفسه التابع للسلطة الفلسطينية والمسؤول عن مقتله، وكان عضوًا رفيع المستوى في “كتيبة شهداء الأقصى”، وهي الجناح المسلح الهامد في “حركة «فتح»”، التي تسيطر على السلطة الفلسطينية. وبالتالي، يبقى السؤال الأساسي: لماذا شعرت «فتح» بالحاجة إلى استهداف أحد أبنائها البارزين.

للحصول على الإجابات، لا بد من معرفة السياق. فتقع نابلس وسط سلسة جبلية من الحجر الأبيض، وحصلت على لقب عنيف هو “جبل النار”. واعتاد الجيش الإسرائيلي من جهته أن يطلق على نابلس اسم “عاصمة الإرهاب” في الضفة الغربية بسبب العدد الهائل من الاعتداءات التي أُطلقت منها في خلال الانتفاضة الثانية (2000-2005). وبالتأكيد، كان حلاوة متورطًا في هذه العمليات، بصفته قائدًا في “كتيبة شهداء الأقصى”. لذلك، أصبح رجلًا مطلوبًا في إسرائيل، أقلّه إلى حين إصدار القدس إعفاءً عامًّا لمقاتلي «فتح» في نهاية الثورة. وبعد ذلك، انتهى عهد “كتيبة شهداء الأقصى” ظاهريًا، ثم انضم مقاتلون عدة إلى “قوى الأمن الفلسطيني” وإلى طبقة الموظفين الفلسطينيين.

إلا أن هذه المجموعة لم تتجرّد يومًا تمامًا من السلاح، وكانت تشكل بقعًا من النفوذ في عدة مخيمات للاجئين في الضفة الغربية، بما فيها مخيم بلاطة على ضواحي نابلس، وفي مدينة نابلس القديمة حيث كان حلاوة يُعتبَر الزعيم إلى حد كبير. وظلت “قوى الأمن الفلسطيني” لسنوات تعتبر هذه المناطق أراضٍ خارجية “محظورة” لا يمكنهم دخولها نظرًا إلى قدراتها العسكرية المتواضعة، فضلًا عن انتماء مجموعات عدة فيها إلى «فتح». وكما شرح مرة أحد المسؤولين الأمريكيين في القدس، رأى البعض في السلطة الفلسطينية أن مقاتلي «فتح» السابقين يشكلون “احتياطيًا استراتيجيًا” لأي نزاع مستقبلي مع إسرائيل.

لكن بحسب التقارير الصحافية، بدأت “قوى الأمن الفلسطيني” و”العناصر المسلحة” في نابلس تتشابك منذ بدايات عام 2015. ولا بد من أن تلقى “قوى الأمن الفلسطيني”، التي تنفّذ مهامها بحزم أكبر، مقاومةً في خلال عمليات توقيف الرجال المطلوبين، وخاصةً داخل بلاطة. إلا أنه نادرًا ما كان إطلاق الرصاص من كلا الطرفين يؤدي إلى وقوع قتلى. وفي معظم الأحيان، كان يتم التوصل إلى حل بالوساطة، ما دلّ على أن الخلافات كانت داخلية ضمن “حركة «فتح»”. غير أن شيئًا ما تبدل في الصيف الماضي.

حصل الحدث المفاجئ في أواخر حزيران/يونيو، عندما بدأ رجال مسلحون بإطلاق النار خارج منزل أحد عناصر “قوى الأمن الفلسطيني” في نابلس، مسببين بجرح زوجته وابنته وبقتل عنصرين آخرين كانا يردان على الاعتداء. وتقول الشائعات إن هذا الحادث المميت هو امتداد لخلاف محلي بين العائلات على كشك في سوق المدينة القديمة. وردّت “قوى الأمن الفلسطيني” على ما رأت أنه المصدر، بشن غارة على الأزقة المكتظة في المدينة القديمة في آب/أغسطس، حيث تم نصب كمائن لها فقُتل عنصران إضافيان. وفي الليلة التالية، شنت غارة أخرى أقوى من الأولى وقتلت رجلين مسلحين مطلوبين، أحدهما هو قريب شاب لحلاوة. وبعد أيام، عُثر على حلاوة في عملية لاحقة، فاعتُقل حيًا ثم قُتل.

تجدر الإشارة إلى أن العملية ككل كانت إحدى أكبر الحملات الأمنية التي قادتها “قوى الأمن الفلسطيني” في تاريخها: فتمت زيادة كتيبة إضافية إلى كتيبة “قوى الأمن الوطني” شبه العسكرية المتمركزة في نابلس، وتدفقت القوات من مدينة طوباس المجاورة، وتم نشر وحدة شرطة للعمليات الخاصة، كما تم نشر عملاء من مختلف الخدمات الاستخباراتية.

بعد عملية القتل، انتشرت بسرعة صور جسد حلاوة الذي تعرض للضرب بقساوة على مواقع التواصل الاجتماعي، مثيرةً الاحتجاج العام. وردّت السلطة الفلسطينية من خلال الإعلان عن إنشاء لجنة تحقيق حكومية للتحقيق بشأن الحادثة. وأكّد أكرم الرجوب، محافظ نابلس، أن حلاوة كان مجرمًا، لكنه أقر متوجهًا إلى صحيفة “نيويورك تايمز” أن “[قتله] كان خطأً بالطبع”. وأضاف: “ما كان على العناصر أن يتصرفوا بهذه الطريقة”. ويبدو أن معظم الفلسطينيين يوافقون على هذا. وبعد وقت قصير من مقتل حلاوة، قال تيسير نصرالله، وهو رئيس لإحدى المجموعات في مخيم بلاطة يتميز بمعارفه الاجتماعية الكثيرة: “الناس غاضبون. ربما نجد هنا عصابات لكننا لا نقدّر تصرف السلطة الفلسطينية الذي يشبه تصرف العصابات”. ويؤيّد نصرالله، على غرار الكثيرين في نابلس، ما دعاه محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، “استقرار الأمن”- أي المبدأ الفلسطيني الصعب التحديد القائم على “سلطة واحدة، بندقية واحدة” – كما يؤيد العدل واحترام الإجراءات اللازمة.

إن عصابات مقاتلي “الأقصى” السابقين مسلحة، وفي حالات عدة مسلحة بشكل أفضل من “قوى الأمن الفلسطيني”. وإذا صدّقنا ما ورد عن الحكومة الرسمية، فهذه العصابات أيضًا متورطة بتجارة الأسلحة، وتهريب المخدرات، وابتزاز الأموال، وأنشطة جنائية أخرى. وقال أحد رجال الأعمال البارزين في نابلس: “لا يعارض أحد تعامل السلطة الفلسطينية مع عدم الشرعية والجرائم… ويجب ألا يفلت أي مجال من قبضة الشرطة. لكن الوضع لا يجبر أحدًا على الاختيار بين الأمرين”. وكان على الرجوب، وهو أيضًا رئيس استخبارات سابق في السلطة الفلسطينية، أن يتعامل مع هذه العقدة الأمنية وكل الاهتمام السياسي والدولي الرفيع المستوى الذي يرافقها. وبعد أن وصل الرجوب إلى مكتبه بعد أسبوع من دفن حلاوة، كان عازمًا على فرض القانون والنظام والتخلص من الأسلحة غير الشرعية في الشوارع.

بالفعل، تفيض الضفة الغربية بالبنادق، التي صُنع الكثير منها محليًا. واستُخدم بعض منها في اعتداءات إرهابية ضد الإسرائيليين، ما حث الجيش الإسرائيلي على إطلاق حملة واسعة في الأشهر الأخيرة للتخلص من ورش العمل التي تُصنع فيها نماذج بسيطة من هذه الأسلحة. لكن الفلسطينيين بالإجمال يحتفظون بالأسلحة لأسباب أكثر شخصية: كالاحتفال بزفاف، أو عيد ميلاد، أو تخرج، أو لتأمين الحماية في حال حصول خلاف عائلي أو جريمة عامة. وحتى الآن، لم يستخدم الرجال المنتمون إلى «فتح» أسلحتهم مجددًا ضد إسرائيل، رغم زيادة الاضطرابات في القدس والضفة الغربية السنة الماضية.

على الرغم من أن الرجوب لم يُشر إلى أن تحقيق “الالتزامات الإقليمية”، في إشارة إلى التنسيق بين جهاز الأمن في السلطة الفلسطينية وإسرائيل، كان أحد الاعتبارات في إطلاق العملية الأمنية في آب/أغسطس، لم يبدُ أنه السبب الرئيسي للتشديد من جديد على الأسلحة غير الشرعية أو الحملة على حلاوة. على العكس، شكل استهداف “قوى الأمن الفلسطيني” وقتلهم في الوقت الراهن في الشوارع مصدرًا أساسيًا للاضطراب، وكان هذا الواقع أيضًا بحسب الرجوب تحديًا “لقوة [السلطة الفلسطينية] وصورتها في نظر الشعب”. لذلك، كان على السلطة الفلسطينية أن تردّ.

غضّت السلطة الفلسطينية النظر لمدة طويلة عن الأسلحة التي يحملها الرجال المسلحون المنتمون إلى «فتح» (أو في حالة حلاوة، خاصة الأفراد المنتمون إلى «فتح») وتصرّفت بتحفظ إزاءها. لكن مع مقارنة العصابات المسلحة في نابلس مع مقاتلي “حركة «حماس»”، وهي الخصم الإسلامي للسلطة الفلسطينية و«فتح»، أقر الرجوب ومصادر أخرى في نابلس فعليًا بأن جزءًا من السبب الذي دفع إلى الرد القوي ضد حلاوة ربما كان سياسيًا. وشرح الرجوب قائلًا: “في حالة «حماس»، كانت هذه أسلحة سياسية، وتم استخدامها بشراسة ضد «فتح» في العام 2007، عندما طردت «حماس» بعنف السلطة الفلسطينية من قطاع غزة. وبدأت السلطة الفلسطينية، بمساعدة الإسرائيليين، حملة واسعة على «حماس» في الضفة الغربية منذ سنتين على الأقل، وكانت النتائج إيجابية. ومن وجهة نظر السلطة الفلسطينية، يبدو أن خطرًا سياسيًا إضافيًا لاح في الأفق، وهو يتأتى هذه المرة من داخل حركة «فتح».

شرح نصر الله في بلاطة قائلًا: “السلطة الفلسطينية خائفة من هذا ’ الوحش‘الذي يُدعى دحلان”. فمحمد دحلان هو مسؤول سابق رفيع المستوى في السلطة الفلسطينية وقائد أمني سابق في غزة عاش لسنوات عدة في المنفى في الإمارات العربية المتحدة بعد خلاف علني مع عباس. لكن مع أموال الخليج العربي والعلاقات الدولية رفيعة المستوى، الأمريكية والإسرائيلية كما يظن البعض، كان دحلان يخطط باجتهاد لعودته. وفي الأشهر الأخيرة، أكدت تقارير عدة أن “الرباعية العربية” (أي مصر والأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) كانت تضغط على عباس للتصالح مع دحلان. من جهته، رفض عباس الأمر، حتى إنه أعرب بقوة وبشكل علني في وقت مبكر من الشهر الماضي عن معارضته لما وصفه بالتدخل الأجنبي في الشؤون الفلسطينية الداخلية. فقال وهو منفعل في رام الله: “حررونا من أصحاب النفوذ ومن أموالهم ومن نفوذهم. نريد أن تعمل كفلسطينيين من غير أي تدخل“.

هذا وكان دحلان معروفًا بتمرير الأموال إلى مخيمات اللاجئين وأماكن أخرى تعاني من نقص الخدمات كوسيلة لزيادة نفوذه على الأرض. في المقابل، تصرفت السلطة الفلسطينية بطريقة معادية للأفراد الذين يُعتبَرون مقربين من دحلان، بمن فيهم شركاء حلاوة المعروفين، فأقصتهم من «فتح» و”قوى الأمن الفلسطيني”. وقد يكون شبح حلاوة، أحد القادة المحليين في «فتح»، وهو يجمع الأسلحة فيما يتزايد الضغط الدولي على عباس للسماح لدحلان بالعودة، له تأثير كبير في شرح حادث القتل الذي وقع في نابلس في النهاية. واعتقد أحدهم في السلطة الفلسطينية أن خطرًا سياسيًا يتشكل في المدينة القديمة، سواء كان ذلك واقعًا أو خيالًا.

منذ دفن حلاوة الصاخب، تراجعت الاضرابات في نابلس بشكل ملحوظ. حتى أنه بعد أسبوع من الحدث، عادت الحياة في وسط المدينة الناشط إلى طبيعتها، ويعود الفضل إلى حد كبير إلى دفع رواتب السلطة الفلسطينية قبل عطلة عيد الفطر. ولم يبدُ عناصر “قوى الأمن الفلسطيني”، المتمركزين في المدينة القديمة، نادرًا، وفي مبنى الحكومة المتداعي حيث تتواجد مكاتب المحافظ، غاضبين كثيرًا. حتى منزل عائلة حلاوة، الذي يقع في عمق المدينة القديمة، كان بحسب التقارير في طور إعادة البناء بمساعدة السلطة الفلسطينية.

يبدو أن كلًّا من السلطة الفلسطينية والرجال المسلحين السابقين في “كتيبة شهداء الأقصى” اتخذ خطوة إلى الوراء تبعده عن تصادم أكبر بعد. وكما قال مرةً مقاتل سابق في «فتح» مقرّب من حلاوة: “عندما تضع «فتح» تحت الضغط، يصبح أداؤها أفضل”. ويعتمد الاستقرار المستقبلي في الضفة الغربية، بالإضافة إلى الحركة القومية الفلسطينية، على كيفية تحكّم «فتح» بهذه الحرب الأهلية الوشيكة.

نيري زيلبر هو باحث زائر في معهد واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى