الفشل الأميركي في تطويع الدور الروسي في سوريا د.منذر سليمان
قد لا تصل الأمور إلى القطيعة التامة بين واشنطن وموسكو لكن السباق في حرب الاستنزاف الطويلة التي تفضلها واشنطن في سوريا لكل من الدولة السورية وحلفائها وفي مقدمتهم الروس، سيستمر إلى أن يتم تحقيق توازن قوى جديد في الميدان .
لم يغفر أوباما لبوتين ما اعتبره خديعة وإساءة لعدم إبلاغه بما ينوي الإقدام عليه في سوريا، إذ انطلقت القاذفات والصواريخ الروسية في قصف مواقع الجماعات المسلحة بعد يومين فقط من لقائهما في نيويورك على هامش اجتماعات الدورة السنوية للأمم المتحدة في عام 2015.
بعد مساءلات الكونغرس بشأن الفشل الاستخباري كان الجواب “كنّا نراقب التحركات الروسية وعلى علم بالتحشد في سوريا، وكنا نعتقد أنها لاستعراض القوة أو لإجراء مناورات مفاجئة”. لكن السفير الأميركي السابق في روسيا، مايكل ماكفول، يعلّق قائلاً “حتى لو لم يفاجئنا الروس ماذا كان يتوفر لدينا من خيارات؟” يقصد أن واشنطن لم يكن لديها خيار المواجهة المباشرة لمنع أو ردع التحرك الروسي.
بعد التحرك العسكري الروسي في سوريا تميّز موقف واشنطن بالتحذير والانتقاد بأنه سيزيد الأزمة اشتعالاً، ويدفع بالجماعات المسلحة إلى المزيد من التطرف. فواشنطن اعتقدت أن روسيا لن تتمكن من تفادي الوقوع في المستنقع ولن تنجح في تدخلها. لكنها تكيّفت منذ الانخراط الروسي مع حقيقة فعالية الدور الروسي وتكثفت المشاورات واللقاءات الثنائية بين كيري ولافروف التي وصلت إلى 20 لقاء في عام 2015. وتم التوافق على تنسيق حركة الطيران بين الطرفين، في الاجواء السورية، لمنع إمكانية وقوع حوادث.
تدريجياً لحظنا الانتقال إلى رعاية ثنائية لكل المساعي الدبلوماسية أو المفاوضات المقترحة عبر الأمم المتحدة، وكذلك التوصل إلى تفاهمات وقرارات من الأمم المتحدة تجاوزاً لدور معسكر واشنطن أو دور دول تحالفها أو حتى “المجموعة الدولية حول سوريا”. ثبتت موسكو موقعها كطرف أساسي في معالجة الملف السوري. وأملت واشنطن بعد رضوخها للدور الروسي أن تغري موسكو بتخفيف العقوبات عليها من تداعيات الأزمة الأوكرانية، فرددت واشنطن تباعاً بأنها “ترحب بأي جهد روسي في سوريا يساعد على محاربة داعش“.
ولخصت تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام الجنود الأميركيين في إحدى القواعد العسكرية الأميركية بمناسبة ذكرى أحداث أيلول/ سبتمبر بتاريخ 11/9/2015 موقف واشنطن بالقول: “إن الاستراتيجية الروسية في دعم نظام بشار الأسد في سوريا آيلة إلى السقوط”. إنما اعترف بـ “أننا نتقاسم الرغبة مع روسيا في مكافحة التطرف العنيف”. وفي إشارته إلى الروس أوضح “إذا كانوا مستعدين للعمل معنا ومع الدول الـ 60 التي يتألف منها الائتلاف، عندها ستكون هناك إمكانية للتوصل إلى اتفاق انتقالي في سوريا”. لكنه ظل متحفظاً بشأن “مضي روسيا بالإعتقاد أن الأسد شخص يستحق الدعم” واصفاً الرئيس السوري بأنه “شخص مدمّر لشعبه، حوّل بلاده إلى منطقة تجذب “الجهاديين من كل المنطقة”. وفي ذلك بدت واشنطن وكأنها تسعى لتحويل الوجود الروسي إلى تورّط في مستنقع ترى فيه فرصة لاستثماره لصالحها بدفع روسيا إلى خيار التخلي عن التمسك بالرئيس الأسد ثمناً للوصول إلى تفاهمات لعملية سياسية إنتقالية تؤدي إلى تقليص دوره، تمهيداً للتخلي المرحلي أو التدريجي عنه.
علقت واشنطن الآمال لدى إعلان روسيا عن سحب جزء من قواتها ومعداتها من المسرح السوري في آذار/ مارس الماضي. وتبين لاحقاً أنها مناورة روسية لتشجيع واشنطن على تحقيق تفاهمات والتوصل إلى هدنة. لكن الهدنة فشلت مرات عدّة وصولاً إلى الحالة الراهنة التي تهدد فيها واشنطن بتجميد التعاون مع روسيا في الملف السوري وخاصة بعد السجال والاتهامات المتبادلة بشأن من يتحمل إفشال تنفيذ الاتفاق الأخير.
لا شك أن تعامل واشنطن في الملف السوري يؤكد ارتباك سياستها ومحدودية خياراتها، إذ لا يمكن أن يتمادى أي جهاز في الإدارة بعيداً عن قمة السلطة الممسكة بكل الخيوط. والأحرى أن خيبة أمل أوباما في إحراز نجاحات لسياسته في سوريا، يوسع هامش المناورة والغموض فتبدو إدارته في نهاية عهدها مسكونة بعدم خلق الانطباع أنها سمحت لروسيا بأن تستعيد مكانتها الدولية عبر المسرح السوري وتقدم بذلك منصة تصويب انتقادية للحزب الجمهوري في انتخابات رئاسية مفصلية.
ويبدو السجال العلني والتهديدات بتجميد التعاون مع روسيا حول الملف السوري إعادة تأكيد لنظرة المؤسسة الأميركية التقليدية التي لا تزال تعتبر أن روسيا هي التحدي الأخطر عليها من تحدي الإرهاب. وبالتالي لن تقبل واشنطن التعامل مع روسيا كطرف متكافىء معها وستبقى تسعى لإضعافها وتطويقها وتشديد العقوبات الاقتصادية عليها.
قد لا تصل الأمور إلى القطيعة التامة بين واشنطن وموسكو لكن السباق في حرب الاستنزاف الطويلة التي تفضلها واشنطن في سوريا لكل من الدولة السورية وحلفائها وفي مقدمتهم الروس، سيستمر إلى أن يتم تحقيق توازن قوى جديد في الميدان.