مقالات مختارة

41 ألف جندي تركي إلى «الباب».. وشرق الفرات! محمد نور الدين

 

عكست الأسابيع القليلة الماضية واحدةً من أكثر المراحل تداخلاً بين مؤثرات الأزمة السورية، ما تسبّب بضبابية الاحتمالات والتوقعات.

لكن في حالة الفصل بين المستويين الأساسي والفرعي من الأزمة يمكن أن تبدو الصورة أكثر وضوحاً.

1- إن الصراع في سوريا تحوّل بعد قليل من بدء الأزمة، إلى صراع إقليمي ودولي. وسوريا هي عقدةُ الصراعات في الشرق الأوسط وبابٌ لتحديد وجهة الصراعات في العالم. ولكون سوريا ركناً أساسياً من محور الممانعة والمقاومة في المنطقة، وركيزة فائقة الأهمية للمصالح الاستراتيجية الروسية في العالم، فإن الغرب وأعداء هذا المحور، وفي مقدّمهم اسرائيل وتركيا وبعض الدول الخليجية، عملوا على استغلال الأزمة إلى أقصى مدى بجهد عسكري وديبلوماسي غير مسبوقين. وكم من المراحل والمشاريع والوجوه توالت على الأزمة، وهي لم تنته بعد بل تزداد تعقيداً.

تحوّلت سوريا إلى بؤرة صراع مركزية بين روسيا والولايات المتحدة. وأضافت واشنطن إليها الأزمة الأوكرانية ومن ثم التمدد الأطلسي في شرق أوروبا والبلطيق.

روسيا وفقاً لما نشر مؤخراً لا تزال العدو الاستراتيجي الأول لأميركا، وهو ما يوجب عدم تركها ترتاح او تحقق مكاسب ولو بالنقاط في أي مكان، ومن ذلك سوريا. لذا فإن العمل على محاولة إغراقها في المستنقع السوري قائمة على قدم وساق. روسيا تدرك مخاطر ذلك. لذلك فهي تحاول أن تستغل أي فرصة للتسوية تضمن في حدها الأدنى مصالحها.

2- لا تزال الولايات المتحدة تتبع سياسة عدم التورط المباشر الواسع على الأرض في النزاعات الدولية من العراق إلى سوريا وليبيا.

تتبع واشنطن، منذ إعلان انسحابها من العراق، سياسة الدعم غير المباشر عبر الخبراء والمستشارين او حتى بأعداد محدودة من الجنود، فيما تفتح مجال الدعم الجوي على مصراعيه. هذا الأمر لا يزال متبعاً حتى الآن في سوريا كما العراق.

لكن القصف الأميركي للجيش السوري في دير الزور يحمل، إضافةً إلى هدفه في الانتقام من عدم إدخال المساعدات إلى حلب، رسالةً جديدةً كبيرة، وهو ان الولايات المتحدة قد تكون مستعدة للتخلي عن استراتيجية عدم النزول إلى الأرض. إسرائيل ايضاً نزلت بنفسها الأسبوع الماضي إلى الأرض بقصف جوي لمواقع الجيش السوري في الجولان والدعم العلني لـ «جبهة النصرة» على خط وقف النار في الجولان. كما أن تركيا دخلت بجيشها للمرة الأولى إلى سوريا. هذا يؤشر إلى ان سوريا قد تكون أمام مرحلة جديدة وخطيرة من حروب الأصيلين بدلاً من الوكلاء، وفي هذا تهديد بتصعيد أكبر لوتيرة الحرب ومخاطر لا يجب استبعادها من احتمال وصول الحرب إلى احتكاك بين الجيوش الأصيلة يمكن أن يتطور إلى انفجار كبير تكون أطرافه جيوش الدول لا التنظيمات المسلحة. والتجربة التركية هي الأكثر قابلية لتكون «التمرين الأول» أو الاختبار الأول لهذه النظرية.

3- هذا ينقلنا إلى الشمال السوري المرتبط تحديداً بالموقف التركي.

انتظرت تركيا خمس سنوات لتحقق هدفها في التدخل العسكري المباشر في سوريا. كان عاملان يعيقان هدفها هذا سابقاً: الأول ان الولايات المتحدة لم تعطها الضوء الأخضر. فدخول تركيا لسوريا كان سيعيق استكمال واشنطن تحضير ورقتها الكردية وجعلها لاعباً أساسياً لا يمكن تجاوزه. وقد نجحت أميركا في ذلك إلى حد كبير إلى أن حدث الانقلاب العسكري في تركيا وتورطت أميركا فيه من جهة، وتقدّم الأكراد عبر «قوات سوريا الديموقراطية» إلى منبج وتمّ تحريرها من «داعش». لكن هنا كانت تركيا ترفع البطاقة الحمراء لمنع وصل الكوريدور الكردي بين كوباني/عين العرب وعفرين مهما كلف الأمر. وجاء إحراج تركيا لواشنطن بسبب دورها في الانقلاب ليساعد الأتراك على كسر الاعتراض الاميركي، وبالتالي دخول الجيش التركي إلى جرابلس، وبمشاركة جوية أميركية.

أما العقبة الثانية فكانت اعتراض روسيا وإيران ودمشق، وهذه عقبة جدية دونها مخاطر اصطدام إقليمية ودولية لم يكن أحدٌ مستعداً لتحملها.

لكن الأتراك نجحوا في تجاوز هذه العقبة أيضاً، بأن وظّفوا الانفتاح الظاهري على روسيا وإيران وإشارات تغيير سياسة أنقرة في سوريا، من إجل إقناعهما بغض النظر عن التدخل التركي في جرابلس؛ وهو ما حصل فعلاً.

لكن بعد سيطرة تركيا على الشريط الحدودي المحاذي مباشرةً لتركيا بين جرابلس وأعزاز، فإن الخطاب التركي تبدّل بما يخالف ما حكي عن «تفاهم وتفهّم» روسي – إيراني وبما يدفع إلى الاعتقاد أن موسكو وطهران قد وقعتا في الفخ التركي. فعلا الصوت الروسي والإيراني محذراً من توسيع السيطرة التركية.

لكن الصوت التركي في المقابل لم يتأثر بالتحذيرات الإيرانية والروسية. فبادرت أنقرة إلى الدعوة إلى منطقة حظر جوي في المنطقة الآمنة الجديدة ثم بضرورة استكمال التوسّع وصولاً إلى منطقة الباب. وقد قال وزير الدفاع التركي فكري إيشيق إن الجيش التركي سيتقدم الى كل مكان ضروري لحماية الأمن التركي.

صحيفة «يني شفق» تحدثت قبل يومين عن أن 41 ألف جندي تركي ينتظرون على الحدود للعبور والتقدم نحو مدينة الباب نظراً لأن «الجيش السوري الحر» لا يملك أي إمكانيات لذلك. أردوغان يؤكد ذلك قائلاً لمرافقيه من الصحافيين الأتراك في نيويورك: «سندخل الباب». لكن هذا يطرح أسئلة كثيرة. ذلك أنه في حال احتلال الجيش التركي لمدينة الباب، فهذا يعني أنه سيكون وجهاً لوجه مع الجيش السوري للمرة الأولى منذ بدء الأزمة. وهو ما عنيناه لجهة انتقال الأزمة السورية من مرحلة الحرب بالوكالة عبر التنظيمات المسلحة إلى الحرب بالأصالة بين الجيوش. إذ مَن يضمن ألا يتحوّل «تجاور» الجيشين التركي والسوري عند أبواب حلب إلى شرارة تشعل حرباً بين الدولتين؟ ومَن يضمن ألا تحاول تركيا فتح ممر حربي إلى حلب من أجل تغيير التوازنات؟ خصوصاً أن الأتراك، رغم كل ما يُحكى عن تحولات في مواقفهم، لا يزالون عنصراً أساسياً في غرفة عملية حلب، كما ورد في البيان الروسي عن قصف الطائرات الروسية لهذه الغرفة. ولماذا الإصرار على إدخال المساعدات المجهّزة مسبقاً من جانب تركيا إلى حلب من دون تفتيش؟

لا يكتفي الأتراك بالإشارة إلى الباب كوجهة مقبلة لاحتلالهم. فأردوغان، المستعد للمشاركة في عملية الرقة والموصل، يقول وفقاً لما نقلته صحيفة «حرييت» إنه «عند الضرورة سوف نعبر الفرات شرقاً نحو قوات الحماية الكردية». التدحرج في الأهداف يكبر بحيث يترك الأتراك الاحتمالات مفتوحة في كل اتجاه.

4- ولو انتقلنا إلى المستوى السياسي، فإن صورة النيات التركية تبدو أكثر وضوحاً. وليس أبلغ من ذلك أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كرّر، لا سيما بعد لقائه يوم الأربعاء مع نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في نيويورك، أن السبب الأساسي والأول لتصاعد الإرهاب في المنطقة هو النظام في سوريا. بل جدّد القول لبايدن إنه «يتوجب اليوم قبل الغد بدء مرحلة انتقالية لا يكون الرئيس السوري بشار الأسد جزءاً منها».

لم يدَع أردوغان نفسه أي مجال لتأويل مختلف، عندما أبلغ موقفه هذا أيضاً إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني أثناء لقائهما في نيويورك أيضاً الأربعاء الماضي. وقد نقلت صحيفة «ميللييت» أن أردوغان أبلغ روحاني أن «الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط يوجب حتماً ان تكون المرحلة الانتقالية في سوريا من دون الأسد».

هذا ما تفكر به تركيا وما تعمل له على الأرض. فهل من مجال بعد لرهانات «ممانعة» على تغيير في الموقف التركي؟ وهل يمكن الاستمرار في الاستراتيجية والتكتيك نفسيهما تجاه أنقرة؟ وهل من مصلحة محور الممانعة استمرار سياسة مدّ اليد، من منطلقات «إسلامية»، إلى أنقرة، التي كانت السبب الرئيسي في تخريب سوريا، والتي لم يجد «منظّروها» أيَّ حرجٍ في القول إن اتفاق التطبيع التركي – الإسرائيلي الأخير له هدفٌ أساسي وهو بتر يد إيران في ساحل المتوسط الشرقي، أي في سوريا ولبنان؟ وهل من المصلحة الاستمرار في سياسة رمي طوق النجاة لنظام «العدالة والتنمية» والرهان على سياسات ثبت خطؤها وفشلها، بدلاً من السعي لتعميق أزمته بطريقة أو بأخرى؟

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى