مقالات مختارة

رسائل الكونغرس المتضاربة للسعودية د.منذر سليمان

 

ادانة السعودية ممنوعة ولايران مسموحة

هرع المتربع على قمة صنع القرار الاميركي، الرئيس اوباما، “لحماية الحليف” السعودي من سطوة القضاء الاميركي باصدار قرار النقض (الفيتو) في الساعات الاخيرة قبل انقضاء المهلة الدستورية المسموحة – منتصف ليل الجمعة، 23 ايلول الجاري .

رجالات القضاء الاميركيين يتأهبون لمقاضاة المملكة، شخصيات ومسؤولين، للتورط في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، نيابة عن اقارب الضحايا، عقب الافراج عن “بعض” البيانات المصنفة سرية ادرج فيها بعض الاسماء لشخصيات كبارا من العائلة الحاكمة ومعاونيهم، فضلا عن تقديم البعثات الرسمية السعودية التسهيلات اللوجستية لتمويل وتعقب “بعض” الفاعلين الذين حملوا الجنسية السعودية.

استجابة” السلطة التشريعية بمجلسيها، الشيوخ والنواب، لسيل المطالب بمقاضاة المملكة وتوقيتها في ذروة السباق الانتخابي يؤشر على جملة قضايا داخلية تجد تجلياتها في السياسة الاميركية واستراتيجيتها الثابتة، للحظة، بالاستمرار في توفير الحماية للعائلة المالكة السعودية.

كما تؤشر على نضوج اول مواجهة مباشرة بين الرئيس اوباما والكونغرس “واضطراره” استخدام حقه الدستوري في النقض مدشنا جولة اخرى قاسية مع خصومه الجمهوريين وعدد لا بأس به من اعضاء حزبه الديموقراطي ايضا. التقديرات الاولية المتوفرة عشية “الفيتو” تشير الى تمكن الكونغرس بمجلسيه توفير نسبة الاغلبية المطلقة، ثلثي الاعضاء، لنقض الفيتو؛ واحالة البت في المسألة للرئيس المقبل.

بالمقابل، توحدت توجهات المؤسسة الاميركية الحاكمة بكافة فروعها للنيل من ايران وطلب مثولها امام القضاء على خلفية احداث احتجازها طاقم السفارة الاميركية عام 1979، وتم تسوية الأمر عبر قناة تفاوض موازية للاتفاق النووي الايراني العام الماضي.

سارعت المرشحة هيلاري كلينتون دخول حلبة الجدل السياسي بالاعلان عن دعمها لقرار الكونغرس، والتودد لجمهور الناخبين والمصالح الاقتصادية الكبرى التي تتربص بتنفيذ القرار لجني مزيد من الثروة والارباح. في هذا الصدد، تردد سابقا بأن الحكومة الاميركية ربما مقبلة على اتخاذ تدابير تؤدي “لتبخر” مدخرات صناديق الاستثمار السعودية في اميركا التي يبلغ حجمها المعلن زهاء 750 مليار دولار، وفق الحسابات السعودية، ونحو 587 مليار وفق “الحسسابات الاميركية.”

الأمر المثير للانتباه هنا يكمن في توقيت اعلان الحكومة الاميركية، عبر وزارة ماليتها، في منتصف شهر أيار / مايو الماضي عن تلك الارصدة دون مقدمات، مما جدد الجدل حول حجم الثراء السعودي الهائل، واتاح الفرصة لمناوئي الرئيس اوباما استغلال المسألة الى ابعد حدودها.

رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب كوركر، حذر اقرانه من سعي الرئيس اوباما ادخال تعديل طفيف على صيغة القرار، في اللحظات الاخيرة، يرمي فيها الى “اخراج السعودية من المساءلة،” حسبما افادت يومية وول ستريت جورنال، 21 ايلول. واوضح كوركر ان الرئيس اوباما سيسخر “مهاراته الدستورية” للحصول على موافقة الكونغرس باستخدامه حق اصدار “اعفاء” السلطة التنفيذية من تطبيق القرار مما “يلغي تنفيذ القرار عمليا ضد السعودية.”

واكب تلك التطورات محاولة بعض اعضاء مجلس الشيوخ، 21 ايلول، لاستصدار قرار يلزم الادارة الاميركية بوقف بيع الاسلحة والمعدات العسكرية للسعودية، التي تبلغ قيمتها مليار دولار ونيف. سقط القرار برفض 71 عضو وموافقة 27. واستمر المناوئون الحشد الاعلامي ضد “العلاقة الثنائية القائمة مع السعودية وضرورة اجراء الكونغرس اعادة مراجعة شاملة لها،” كما جاء على لسان عضو المجلس الديموقراطي، كريس ميرفي.

بعيدا عن الملاسنات اللفظية والمزايدات السياسية بين البيت الابيض والكونغرس، تتوحد وجهة النظر لدى كافة اقطاب المؤسسة الحاكمة امام عدم المساس بالترتيبات القانونية الجارية بين واشنطن ومعظم عواصم العالم والتي تمنع مقاضاة المسؤولين الاميركيين امام المحاكم المحلية اذ تهدد “بتقويض حركة ومستقبل المسؤولين الاميركيين في الخارج.” واوضح المسألة الناطق باسم البيت الابيض، جوش ايرنست، قائلا ان بلاده “تستفيد من الحصانة السيادية واكثر من اي دولة اخرى في العالم نظرا لأن الولايات المتحدة تسخر نفوذها لدى المجتمع الدولي” لضمان حصانتها من المساءلة.

الحصانة السيادية” في العلاقات الدولية تقتضي احالة القضايا الخلافية بين الدول الى حكوماتها عوضا عن مجريات القضاء. المحاكم الاميركية، بشكل عام، اثبتت رغبتها في تلافي البت في القضايا الرسمية لخشيتها من ارساء سابقة تدخل وتداخل بين صلاحيات السلطات الثلاث، خاصة في بعد السياسة الخارجية وتعقيداتها.

ثابر البيت الابيض على اصدار التحذيرات الصريحة لما يعتبره تداعيات قرار مقاضاة السعودية الذي من شأنه “فتح الابواب على مصراعيها للمواطنين الاميركيين مقاضاة السعودية، وبالمقابل سيتيح الفرصة لأي دولة أجنبية مقاضاة الولايات المتحدة؛” لا سيما في الدول التي اضحت هدفا دائما للاغتيالات عن بعد بطائرات الدرونز، او تتعرض لهجمات ارهابية: باكستان واليمن وسوريا وتركيا.

رعب المؤسسة الاميركية الحاكمة من المساءلة القانونية له ما “يبرره،” في الماضي القريب. في منتصف شهر نيسان 2014، اصدر القاضي في المحكمة الاسبانية الوطنية، بابلو روز، قراره بالمضي في مقاضاة ادارة الرئيس بوش لانتهاكاتها حقوق الانسان ضد اربعة معتقلين في سجن غوانتانامو قدموا دعوى عام 2009، معللا ان قراره يستند الى الحق في نفاذ “الولاية القضائية العالمية،” طارحا عرض الحائط مساعي “السلطة السياسية والقضائية” المحلية التدخل لانهاء القضية دون المثول قضائيا.

واوضح القاضي الشاب ان “الولاية القضائية العالمية” تتيح المجال للقضاة محاكمة بعض الاعمال الوحشية التي ارتكبت في بلاد اخرى. من بين المطلوبين للمثول امام القاضي روز كان كل من: جورج بوش الابن، نائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد. ومارست الحكومة الاميركية اقصى ما استطاعت من ضغوط على الحكومة الاسبانية للتدخل لدى القضاء؛ ولبت النداء باصدار قانون يتيح المحاكمة ضد مواطنين اسبان من المتضررين.

خيارات ومهارات الرئيس اوباما

لم يساور الشك أحدا بعزم الرئيس اوباما حق “الفيتو” وادراكه التام انه من غير المرجح ان تثمر جهوده في كسب عدد كاف من المناصرين في مجلسي الكونغرس والحيلولة دون توفر نسبة الثلثين. من بين المراهنات السياسية ان يرجيء الكونغرس التصويت الى ما بعد الانتخابات، وبالتالي يتم ترحيل المسألة للرئيس المقبل.

صقور الحزب الجمهوري، وعلى رأسهم رئيس مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل اعرب عن عزمه الابقاء على انعقاد المجلس بهدف “افشال” قرار فيتو الرئيس، في ظل اجواء يتشوق اعضاء الكونغرس للمغادرة السريعة والاعداد للحملة الانتخابية. واوضح ماكونيل مساعيه بأن “الافتراض السائد هو نجاح جهود افشال فيتو” الرئيس.

على الطرف المقابل، اظهر زعيم الاقلية الديموقراطية في مجلس الشيوخ المرتقب، تشاك شومر، ارتياحه واطمئنانه لضمان نسبة ثلثي الاعضاء لتفويت الفرصة على الرئيس اوباما، وهو الذي تبنى مشروع القرار في مجلس الشيوخ، بالقول “اعتقد اننا سنحقق نسبة الثلثين بسهولة في حال قرر الرئيس استخدام الفيتو.”

في التوازنات السياسية الحساسة يعرب انصار الرئيس اوباما عن الخشية من اضطراره لاستغلال رصيده السياسي “واهداره” في هذه المسألة، خاصة وانه احوج الى استثمار رصيده لحشد الدعم لمرشحي الحزب الديموقراطي.

تجدر الاشارة الى فشل الجهود والمساعي القانونية السابقة للحد من الحصانة السيادية، بيد ان نجاحها في هذا الوقت بالذات تشغل بال المراقبين وتعود لجملة عوامل موضوعية، أهمها ميل المجتمع الاميركي بشكل عام الى تغليب سلطة القانون، فضلا عن تشابك رؤى الرئيس اوباما والمرشحة كلينتون في مجال السياسة الخارجية واعتبارها قابلة لتبني الحلول القانونية.

وعليه، ترسخ وعي جماعي لدى الجمهور بأن تسوية هجمات الحادي عشر من سبتمبر هي من اختصاص القضاء، استنادا الى تعريفها بأنها “اعمال حربية ضد الولايات المتحدة.” في ظل هذه الخلفية نضج قرار مقاضاة السعودية كامتداد طبيعي لسلطة القانون.

حيثيات القضاء وشروطه الموضوعية تستغرق وقتا زمنيا يصعب التنبؤ بمداه، خاصة لناحية اشتراطه تقديم طرفي المعادلة دلائل وقرائن متوازية لدعم الطلب قبل المضي قدما، ودون توفر ضمانات تتيح الوصول الى منتهاه، خاصة في ظروف شديدة التعقيد تتعلق بحكومات اجنبية.

عوامل موضوعية

يضاف لما تقدم الشعور العام والمتجدد بفشل سياسة الرئيس اوباما الخارجية، وتنامي وتيرة الاعتداءات والتفجيرات في الداخل الاميركي التي وفرت الذخيرة السياسية لتبني سياسات وتدابير أمنية مشددة، وعززت تيار الصقور في الحزبين.

استغل مؤيدوا الكيان الصهيوني داخل وخارج المؤسسة الحاكمة مكامن الضعف داخل قرار الادارة باتهامها انها كانت مسكونة بالتوصل الى ابرام الاتفاق النووي مع ايران بسرعة قياسية مما دفع الى خارج دائرة الفعل توجيه الانظار الى ايران واضاعة الفرصة امام اهالي المتضررين لمقاضاتها.

تنامي احداث القرصنة ضد مؤسسات اميركية، تجارية وحكومية، في الآونة الاخيرة اسهم في ترجيح كفة صقور الكونغرس وتوعدها باتخاذ اجراءات وتدابير قاسية ضد كل من تثبت بحقه التهمة، افرادا ومؤسسات وحكومات. كما يأتي التراشق بالعقوبات الاقتصادية بين الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة لتوتير الاجواء وسعي المؤسسة الحاكمة “الفطري” لفرض رسوم وغرامات عالية، في حالة شركة فولكس فاجن الالمانية، ورد فعل الاتحاد بفرض غرامة مالية كبيرة على شركة “آبل” الاميركية واتهامها بالتهرب من حصصها الضرائبية.

عند هذا المنعطف تتداخل العوامل الموضوعية والذاتية لتضفي بعدا سياسيا على القضايا الخلافية لكسب الجمهور الانتخابي.

في الشق العملي والمرجح، لو قدر للادعاء تقديم شكوى ضد السعودية في المحاكم المدنية فان حظوظ سيرها للامام تتراجع؛ والأمر الجائز انها تتيح الفرصة لاعضاء الكونغرس المعنيين في دوائرهم الانتخابية الادعاء بانهم يناصرون شن حملة قاسية لمكافحة الارهاب ومصادر تمويله. وعلى ضوء التقدم الحثيث لموعد الادلاء بالاصوات، فان ترسيخ تلك الصورة في الاذهان تفوق قيمتها العملية بمعدلات كبيرة.

توريد الاسلحة دون قيود

افتضاح دور السعودية في حربها على اليمن واستهدافها المتواصل للمدنيين والمؤسسات الاقتصادية، وفشلها في تطويع ارادة الشعب اليمني، شكلت حرجا لدى بعض اقطاب المؤسسة الحاكمة، ودفعت البعض منهم تبني قرار في الكونغرس يحظر بيع الاسلحة والذخيرة للرياض بقيمة 1،15 مليار دولار والذي صادقت عليه وزارة الخارجية الاميركية الشهر المنصرم. بيد ان المغريات الاقتصادية والمصالح التجارية المتشابكة كانت السبب الرئيس في افشال المسعى بنسبة تصويت مختلة لصالح انصار الاقتصاد الحربي باغلبية 71 ضد 27.

احد قطبي تبني المشروع ، كريس ميرفي، كان شديد الواقعية في مسعاه متوقعا فشل الجهود مسبقا. وقال عقب التصويت انه على الرغم من “عدم نجاح المسعى فان الهدف لم يكن منصبا على استصدار قرار، بل لتسليط الاضواء على السعودية والضغط عليها لانهاء حربها ضد اليمن.” واشار ميرفي الى استمرار الطيران السعودي بقصف مستشفيات “اطباء بلا حدود،” للمرة الرابعة باستخدام اسلحة اميركية، كان آخرها ذخيرة الفوسفور الابيض الفتاك ضد المدنيين.

وادلى ميرفي بحديث موسع حول السعودية ليومية بوليتيكو، 21 أيلول الجاري، اوضح فيه انه “لا يعتقد ان لدى السعودية رغبة في نقاش مستمر حول مستقبل العلاقات الاميركية السعودية داخل اروقة مجلسي الكونغرس.” وشدد ميرفي على ما رمى اليه من مشروع القرار “واثارة الجدل حول حرب اليمن وسلوك السعودية في المنطقة ..”

القطب الآخر في تبني المشروع، راند بول، اثار مسألة سباق التسلح في المنطقة كنتيجة للصفقة الهائلة مع السعودية، موضحا ان “تدخل الولايات المتحدة في العراق وسوريا كان غير قانوني ولم يستند الى تفويض الكونغرس بذلك، كما ان الجدل الدائر كان تصويت غير مباشر ضد الحرب على اليمن؛” مشددا على ان قادة الكونغرس “لن تسمح باجراء تصويت مباشر ..”

واعاد الثنائي ميرفي – بول الانظار الى ان الحرب ضد اليمن ومواطنيه تمضي باسلحة وذخائر اميركية دون قيود “عوضا عن شن حرب ضد عدونا اللدود، تنظيم القاعدة .. والذي انضم اليه تنظيم الدولة الاسلامية في تحقيق مستويات عالية من النمو وتعزيز الصفوف.”

جدير بالذكر ان صفقات الاسلحة المتعددة التي “فازت” بها السعودية أتت بمباركة اميركية كمقدمة لترضية حلفائها واشراكهم ببعض قطع الحلوى، وعلى رأسهم كندا وبريطانيا. وقعت الاولى عقدا مع السعودية لتوريد عربات مدرعة ونظم اسلحة رديفة، منتصف آذار 2016، قيمتها 15 مليار دولار. وبهذا صعدت كندا الى المرتبة الثانية كأكبر مورد للاسلحة الى الشرق الاوسط، وفق تصنيف مجلة “جاينز” العسكرية المتخصصة.

وسائل الاعلام الاميركية ايدت صفقة الاسلحة المذكورة، التي اعلن عنها ابان زيارة العاهل السعودي الاولى لواشنطن مطلع العام الجاري. عللت يومية نيويورك تايمز، 5 ايلول الجاري، الصفقة على انها تصب في مساعي ادارة الرئيس اوباما لكسب رضى العائلة السعودية وتهدئة مخاوفها من الاتفاق النووي الايراني. كما صادقت البنتاغون في فصل الصيف الماضي على توريد اسلحة للسعودية قيمتها 5،4 مليار دولار، تتضمن 600 صاروخ من منظومة باتريوت وذخيرة اخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى