الحرب السورية: سباق جيوش نحو مدينة الباب: محمد بلوط
اشتباك ديبلوماسي روسي أميركي في مجلس الأمن الدولي، من أجل التخلي عن أعباء الهدنة السورية، يفتح السباق التركي الاميركي الروسي السوري نحو الرقة ومدينة الباب. الانخراط المباشر للقوى الإقليمية والدولية بجيوشها، والاستغناء عن المجموعات المسلحة، يرفع من حدة الاشتباك الديبلوماسي، والصراع حول تقاسم النفوذ داخل الحدود السورية، من دون الاضطرار للخروج من اطار «سايكس بيكو»، حتى الآن.
وما كان مساومات لا تفضّ الا في قاعات التفاوض نصف المظلمة، خرج الى الضوء للتخلص من ثقل الالتزام الأميركي به، وتسهيل انسحاب الخارجية الأميركية من الملف السوري وتسليمه الى صقور «البنتاغون» الذين نفّذوا مجزرة دير الزور بحق عشرات الجنود السوريين من أجل انتزاعه من الديبلوماسيين.
الفرصة الاخيرة، قبل العودة الى الميدان لتحسين شروط التفاوض، تحولت الى مبارزة بين صانعي الهدنة السورية وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الاميركي جون كيري. الاشتباك بينهما اخرج الى العلن تراجع الخارجية الاميركية، وهيمنة «البنتاغون» على تسيير الملف السوري من الان وحتى رحيل الادارة الحالية، وهو ما يدعو الى مراجعة الحسابات الماضية عن قدرة الإدارة الحالية على مواصلة اتخاذ القرارات في الشأن السوري، وقدرتها المفترضة على الذهاب باستراتيجية التفاهم مع الروس ضد
تنظيمي «النصرة» و «داعش»، حتى نهايتها.
الشروط العلنية التي كررها كيري، بحظر سماء سوريا على سلاح الجو السوري، لقاء موافقة اميركا على مشاركة روسيا في ضرب «جبهة النصرة»، وهو غاية الروس الأولى من التفاهم مع الأميركيين، تبين ان الاتفاق الروسي الاميركي لم يكن ناجزاً. الاعتراضات داخل وزارة الدفاع ووكالات الاستخبارات الاميركية، رجحت كفتها في اعادة صياغة الموقف من الهدنة، واستبعاد المقايضة التي تم التفاهم عليها في التاسع من هذا الشهر في جنيف، بتوزيع متعادل للسماء السورية، بين اسلحة الجو السورية والروسية والاميركية لاستئناف الحرب على الارهاب، وتحديد اوضح للجبهات التي لن تغلق بوجه الجيش السوري، في ارياف اللاذقية، وجنوب حلب، وريف حماه الشمالي، حيث يدافع الجيش عن مواقعه، ومعقل «النصرة» في ادلب، وبعض الغوطة، والجنوب السوري.
الأميركيون لا يزالون يعتقدون بسريان الهدنة، الروس ايضا يدعون الى حل سياسي تفادياً للذهاب في خيارات يستعدون لها مع ذلك. (تفاصيل صفحة….)
ومن اجل ذلك، اعاد الروس، خلال الأيام الماضية، مع تداعي الهدنة، محاولة تسخين التقارب مع أنقرة، والذي بدأ الاتراك تبديد حرارته ووعوده التي سمحت لهم بدخول الشمال السوري، والانتشار في منطقة عازلة حدودية جرى الاتفاق عليها مع الروس والايرانيين، بطول 90 كيلومترا بين جرابلس واعزاز على الا تتجاوز عمق 12 كلم في الاراضي السورية جنوب جرابلس. اختبار الاتراك للثلاثي، الروسي الايراني السوري، بالحديث عن الذهاب ابعد من ارياف جرابلس، الى مدينة الباب بعمق 35 كيلومترا، بحجة منع اي تواصل بين الكانتونات الكردية، واخراج «داعش» من معقلها الاخير في ريف حلب الشمالي، انتهى الى الفشل.
تصريحات ايرانية وروسية، ورسائل سورية الى مجلس الامن صدرت لتظهر امتعاضا من تملص انقرة من تعهداتها بعد تصريحات رجب طيب أردوغان عن الغوص في الشمال السوري حتى مدينة الباب على مشارف حلب. رئيس الاركان الروسي فاليري غيراسيموف حذّر الاتراك في لقاء مع نظيره التركي خلوصي اكار، الاسبوع الماضي، من العواقب الوخيمة للذهاب ابعد مما اتفق عليه، واعاد رسم الخطوط الحمراء للتمدد التركي في الشمال السوري. الروس طلبوا من الايرانيين العودة الى وساطة مع الاتراك لاقناعهم باحترام ما اتفق عليه. الايرانيون تحدثوا الى انقرة. جابري الانصاري مساعد وزير الخارجية الايراني، جال ايضا على موسكو ودمشق، بعد ان فشل اجتماع امني سوري تركي روسي في موسكو قبل عشرة ايام، في ترسيخ حدود ما اتفق عليه من انتشار تركي، في الشمال يضع حدا للتقدم الكردي نحو عفرين غربا لوصل الكانتونات الكردية. الاتراك تخلوا عن فكرة ارسال قوات برية فقط، ولكن لم يتخلوا عن العملية. وزير الدفاع التركي فكري اشيق قال «ان الهجوم على الباب سيكون جويا، ولن تشارك فيه قوات مشاة». العملية التركية حتى مدينة الباب، لن تكون اكثر من عملية اسناد جوي للمجموعات السورية التي استطاعت انقرة سحبها من جبهات حلب، وتجميعها في جرابلس، للهجوم على الباب.
السباق الى مدينة الباب لضبط التمدد التركي في الشمال، وحماية الانجازات الميدانية في حلب وتعزيزها، هو احد الخيارات التي يدرسها الروس، وهو ما يوحي بوجود قناعة ان الاتراك عازمون فعلا، على التملص من التفاهمات السابقة، من دون ان يعني ذلك العودة الى اجواء التوتر الماضية. الروس بدأوا منذ اسابيع، ومن دون انتظار التمدد التركي بارسال قوات من المتطوعين الى السفيرة، شرق الباب. بضع مئات من المقاتلين في تحصينات احد اهم مجمعات الدفاع السورية. الجبهة الشرقية، الاطول في ارياف حلب تستدعي تحقيق انجاز مشابه لانجاز تدمر الروسي السوري في اذار الماضي، وتوفير شروط سياسية وميدانية مشابهة لتلك التي سمحت بتحرير تدمر من «داعش» ونقل جنود من جبهات اخرى، كي يتمكن الروس والسوريون من التقدم نحو مدينة الباب. الهدنة تبدو ضرورية كي يتمكن الجيش السوري من نقل ما بين 6 الى 10 الاف جندي من جبهات مهادنة والاستيلاء على المدينة التي يقف الجيش على بعد 8 كيلومترات من تخومها الجنوبية.
الجيش السوري والروس يبدون افضل حالا من الاتراك لاستعادة المدينة. الاتراك الذين لم يستطيعوا تجميع اكثر من خمسة الاف مقاتل سوري، يحتاجون الى اكثر من ذلك. الجيش الثالث التركي الذي يعمل في المنطقة، لن يستطيع توفير غطاء جوي لعملية اعقد بكثير لاعتماده على حلف «الناتو» في التوجيه والرادارات، وعدم قدرته على تنظيم حملة جوية طويلة الأمد. منبج الاقل اهمية، والسهلية الطابع، والاقل حشدا لمقاومة لم تتجاوز الف رجل، فرضت على الاميركيين حملة جوية ضارية لمدة شهرين ونصف الشهر، قبل ان ينسحب منها «داعش» بشبه مساومة الى جرابلس. الباب، الجبلية جنوبا، والتي يحشد فيها «داعش» نخبة جند «الخلافة» وما لا يقل عن ثلاثة الاف مقاتل، تحتاج الى حملة جوية باستطاعة الطيران الروسي القيام بها بسهولة اكبر من الاتراك، وتقديم اسناد جوي فعال لوحدات، تقول معلومات إن الجيش السوري بدأ بالعمل على تجميعها.
اما الرقة، فيقول مسؤول تركي بارز لـ «السفير»، انه لا تفكير جديا بالوصول اليها، رغم كل العروض المعلنة. خيار الرقة هو ايضا خيار يدرسه السوريون، لكنه خيار يعني عدم مواجهة التمدد التركي في الشمال السوري، وترك الاكراد والاتراك يتواجهون، ودفع واشنطن الى خيار تؤجله، بحسم موقفها بين الاكراد والاتراك. الاعلان عن خطة تسليح اميركية جديدة للقوات الكردية، لمعالجة الاحباط الذي باتت قياداتهم تشعر به نتيجة «خيانة» واشنطن لهم، لن تقنعهم بالبقاء مع الاميركيين ومقاتلة «داعش» في مدينة الرقة، حيث لا مصالح للاكراد في ضم المدينة العربية او مقاتلة «داعش».
المشروع الفدرالي الكردي نفسه بات مهددا من واشنطن نفسها التي تدعم بيد عملية «درع الفرات» التركية التي تريد قطع الطريق على تقدم «وحدات حماية الشعب» الكردية نحو عفرين، وترسل باليد الاخرى الى «درع الفرات» مجموعات صغيرة من قواتها الخاصة للمشاركة في دعم العملية ضد.. الاكراد.
واشنطن الحائرة بين تركها وكردها، ارسلت الى الاكراد في قرية المنبطح العربية غرب الرقة أعلاماً لرفعها على بعد 500 متر من الحدود مع تركيا، والى ضفة نهر الساجور، حيث تتمركز هذه القوات، بين جرابلس ومنبج، لحمايتها من تقدم «درع الفرات».. التي تؤيدها.
المسؤول التركي يقول ان الاميركيين، لن يذهبوا الى الرقة، لأن تقديمها على الموصل، سيعقد عملية تحرير المدينة العراقية. الاميركيون الذين قصفوا الجيش السوري في دير الزور لتسهيل اسقاط المدينة بيد «داعش»، لن يقاتلوا من اجل الرقة، لكي تبقى حيزا يمكن لـ «داعش» التفكير بالانسحاب اليه، وتسهيل المعركة على المهاجمين، وتقصير امد القتال، خصوصا ان «داعش» بات يدرك كما يقول المسؤول التركي ان ايامه في العراق باتت معدودة.
(السفير)