لمَ أسقطت أميركا الهدنة ثم تطالب بإحيائها في سورية؟: العميد د. أمين محمد حطيط
في شباط الماضي دخلت أميركا مع روسيا في اتفاق يرسي هدنة في سورية عوّل عليها الكثيرون لتكون بداية الخطوات الأولى لإنتاج البيئة الملائمة للذهاب الجدي الى الحلّ السياسي المتوازن الذي يحفظ وحدة سورية والقرار المستقل لشعبها. وعلى أساس هذه الهدنة تمّ التحضير لمباحثات جنيف على أساس القرار 2254 الذي وضع خطوطاً عريضة للحلّ السياسي في سورية.
ولكن أميركا التي تبيّن لها في تقييم معمق واطلاع شامل على الوضع انّ الميزان ليس في صالحها في الميدان، وبالتالي ان المفاوضات اذا انعقدت فإنها لن تفضي الى ما يسرّ النفس الأميركية الطامعة بالسيطرة على المنطقة، لذلك فانّ أميركا هذه استغلت الهدنة من اجل تعزيز أوضاع ارهابيّيها واعادة تنظيمهم وتسليحهم وتجهيزهم بأفضل ما يمكن إيصاله اليهم من سلاح وذخيرة، وقرّرت خوض المواجهة على كل الجبهات في سورية عامة وعلى جبهة حلب بشكل خاص، لانها رأت في حلب المكافئ الاستراتيجي النوعي الذي يعادل دمشق التي تحكم الدولة السورية الإمساك بها وتحصّن أمنها في المحيط بشكل يجعلها عصية على الاختراق.
وبالفعل أوقفت أميركا في نيسان/ ابريل 2016 الفائت مباحثات جنيف دون ان تحدّد موعداً جديداً وفجّرت الميدان وانطلقت في معركة حلب بشكل جعلها في الأيام الأولى تحقق مكتسبات ميدانية لا بأس بها من خان طومان الى العيس وتلتها الى خلصة وجوارها، وكادت أن تعلن انها امتلكت زمام المبادرة في حلب، وأنها نجحت في خدعتها في استثمار الهدنة التي أعلنتها في شباط، الهدنة التي أوقفت هجوم سورية وحالت دون استكمال تطهير حلب من الإرهابيين، ومكّنت أميركا من تحشيد الجماعات المسلحة وتنفيذ عمليات معاكسة غيّرت بعض الشيء في المشهد.
شعر معسكر الدفاع عن سورية بما في ذلك محور المقاومة وروسيا بأنّ أميركا غدرت وخدعت، فقرّر الردّ السريع وأطلق عملية تحرير حلب. العملية التي خطط لها على مراحل ثلاث أولها تحشيد وإعداد القوى اللازمة، ثانيها تطويق وتهيئة البيئة العملانية، والثالثة هي إنجاز التطهير النهائي للأحياء الشرقية. وقد نجح هذا المعسكر في عمليته إيما نجاح وأنجز المرحلتين الأولى والثانية ووضع أقدامه بثبات وثقة بالنفس على اعتاب المرحلة الثالثة. هنا خشيت أميركا أن تفقد ورقة حلب، وبعد ان لمست انّ أحداً لم ولن يصغي اليها في التهويل لمنع معركة حلب فارتضت ان تدخل في صفقة مع روسيا عنوانها هدنة حلب المتدحرجة. صفقة أبرمتها أميركا في مطلع أيلول/ سبتمبر الحالي وعوّلت عليها لمنع استمرار سورية في معركة حلب لتطهيرها.
وهنا ربّ قائل يقول كيف لمعسكر الدفاع عن سورية ان يعطي هذه الورقة الثمينة لأميركا وان يكرّر تجربة هدنة شباط الماضي. وهو سؤال محق وبكلّ تأكيد إذا قرأنا ظاهر الأمور فقط، أما إذا تعمّقنا في الصفقة فنجد أنّ العكس هو الصحيح.
ففي صفقة أيلول كان هناك تبادل بين ورقتين او مجموعتين من الموجبات والالتزامات ومن طبيعة مختلفة، ففي الصفقة التزمت روسيا وتالياً معسكر الدفاع عن سورية بالتزامات من طبيعة عملانية تشمل وقف عملية تطهير حلب، وتزويد المسلحين والأهالي في الأحياء الشرقية لحلب بالمؤن والاحتياجات المعيشية وهو ما أُسمي بالمساعدات الإنسانية، على ان يتمّ ذلك عبر طريق الكاستيلو التي يربط الأحياء تلك بتركيا بعد ان تخليه القوات السورية، ما يعني بالمفهوم الأميركي فك الحصار المحكم الذي فرضه الجيش العربي السوري على حلب خلال آب/ أغسطس المنصرم.
وفي المقابل التزمت أميركا بموجبات والتزامات ذات طبيعة استراتيجية هامة تشمل قبولها العلني والصريح بتصنيف جبهة النصرة إرهابية مع داعش، وتلتزم بإجراء الفصل الميداني بينها وبين مَن تسمّيهم معارضة معتدلة، كما وتلتزم بإنشاء غرفة عمليات عسكرية مشتركة مع روسيا وتوجيه ضربات مشتركة لهذين التنظيمين الإرهابيين. أيّ ببساطة كلية تكون أميركا التزمت بالتخلي لا بل بقتال جيشها السري الذي اعتمدت عليه للعدوان على سورية.
والسؤال هنا كيف كان لأميركا أن تدخل في صفقة غير متوازنة؟ وماذا يبقى لها في سورية من أدوات يعوّل عليها إذا شطبت النصرة وداعش من الميدان، وهما يشكلان أكثر من 65 من المسلحين؟ وهل أميركا لا تحسن التقدير حتى تتخلى عن اوراقها الاستراتيجية بهذه السهولة؟
الجواب، برأينا انّ أميركا كانت تعلم كلّ ذلك، ولكنها لم تكن تخشى منه، لأنها في لحظة توقيع الاتفاق كانت تضمر عدم تنفيذ التزاماتها، فكانت تريد ان تأخذ ما كسبته في الصفقة، أي فك الحصار وتثبيت المسلحين وان ترفض إعطاء ما التزمت به على عادتها في المماطلة والتسويف والخداع. ورتبت الأمر في أخبث عملية توزيع أدوار داخل الإدارة الأميركية، بدا فيها البنتاغون معارضاً للصفقة غير المتوازنة رافضاً تنفيذها، ومن أجل ذلك أيضاً رفضت أميركا نشر الاتفاق حتى لا تزداد إحراجاً في إظهار عدم التوازن في الصفقة وكذلك رفضت الذهاب لمجلس الأمن لاعتمادها من قبله.
لكن أميركا فوجئت بأنّ حساباتها هذه لم تطابق ما سيكون عليه الميدان، حيث إنّ معسكر الدفاع عن السورية الذي قبل بالصفقة كان حذراً وفطناً في مسألة التنفيذ، ولم يعط أميركا ما ابتغت دون ان تبادر هي الى تنفيذ ما التزمت به، وهنا تعطلت الصفقة فانتقمت أميركا من الجيش العربي السوري في دير الزور بعد أن حمّلته مسؤولية التعطيل ومسؤولية الوعي وفضح خدعتها وعدم الوقوع في شراكها.
انّ العدوان الأميركي على الجيش العربي السوري في دير الزور هدف الى تحقيق ثلاثة أهداف أميركية: أولها، الانتقام من الجيش الذي أفشل الخدعة الأميركية. ثانيها، إخراج الجيش من دير الزور لإلحاق المدينة بمنطقة النفوذ الأميركي المزعومة، وفي ذلك شيء من كسب اوراق ميدانية استراتيجية لصالح أميركا. وثالثها، رسالة الى روسيا بأنّ أميركا وحدها من يقرّر في الميدان السوري دون شراكة معها. وتكون بهذا عوّضت برأيها خسارة ما كانت تأمل به في حلب.
ولكن أيضاً كانت الحسابات الأميركية هذه المرة خاطئة، وارتدّ عليها عدوانها الوحشي خسارات ثلاث بدل الأهداف الثلاثة، حيث افتضحت وبدون أيّ مواربة او التباس العلاقة البنيوية العضوية بين داعش وأميركا، وظهر للعلن انّ داعش فصيل مسلح تشغّله أميركا، كما أنها فشلت في إخراج الجيش العربي السوري من دير الزور، بعد أن قام بعملية هجوم معاكس وتثبيت مراقعه فيها، ثم اتبع الموقف هذا بموقف بالغ الأهمية تجلى ببيان القوات المسلحة السورية إعلان وقف العمل بالهدنة في صفعة مدوية لأميركا، وأخيراً كان الموقف الروسي الحادّ الذي سخر وهزأ من أميركا علانية وخداعها وفضائحها.
بعد هذه المناورات والمبارزة تعود أميركا وتتمسك بالهدنة التي كانت هي سبب في فشلها وسقوطها، وهنا يُطرح السؤال عن أي هدنة تتكلم أميركا؟ عن هدنة رفضت او امتنعت هي عن تنفيذها أم عن خدعة كشفت ورفض معسكر الدفاع عن سورية الوقوع فيها؟
يبدو أنّ أميركا تريد العودة الى الهدنة لتطمس فضائحها وجرائهما في دير الزور ولتجرّب حظها في الخداع مرة أخرى، لأنّ النفس التي من طبيعتها الاحتيال والخداع تستصعب أن تصدق وأن تفي بالتزاماتها، كما انها تريد ان تثبت انها هي من يتحكم بمسار الأزمة السورية ميدانياً وسياسياً.
ولكن نرى انّ النيات والأهداف الأميركية هذه لن تتحقق وان على أميركا ان تعلم انّ زمن الاحتيال والخداع ولّى. وهي تستطيع ان تخدع مرة كما فعلت في شباط، لكنها لا تستطيع ان تخدع في كلّ مرة، وانّ معسكر الدفاع عن سورية الذي أسقط خطط أميركا الخمس السابقة وأبقى سورية صامدة في مواقعها الاستراتيجية والذي فضح وأسقط خدعتها الأخيرة، ان هذا المعسكر جاهز أيضاً وبكلّ صلابة وثقة لإسقاط أيّ خطة او خدعة جديدة مع علمه بأنّ أدوات أميركا في الميدان تتآكل واذا شاءت ان تأتي بجيشها فإنّ الأسلوب الذي خبرته في العراق سيتكرّر في سورية وفي النهاية فإنّ النصر لن يكون الا للشعوب التي قرّرت ان تدافع عن نفسها. والشعب السوري ومعه شعوب المنطقة يملكون هذا القرار.
(البناء)