سيد أوباما: العالم كان أكثر أمناً في الحرب البادرة: ناصر قنديل
– درج الأميركيون في خبرتهم المتراكمة مع مهنة غسل الأدمغة ورمي المصطلحات وترويجها، على تسويق معادلة طالما يلجأون إليها لتغطية جرائمهم، فقالوا بعد حربَيْ أفغانستان والعراق، ومسؤوليتهم عن قتل وتشريد الملايين، إنّ أفغانستان أفضل بلا طالبان، وإنّ العراق بات أفضل بلا صدام حسين، وبعد الربيع العربي قالوا عن ليبيا إنها أفضل بلا العقيد معمر القذافي، وكان حلمهم أن يشهدوا سورية خراباً ويقفوا على أطلالها وأشلاء الضحايا ليقولوا إنّ سورية صارت أفضل بدون الرئيس بشار الأسد، والهدف من هذه المعادلة حشد ذاكرة الذين لا يريدون الوضع السابق في خانة عدم التجرّؤ على القول لا ليس صحيحاً، الوضع كان من قبل أفضل، فمن يجرؤ في العراق اليوم أو في ليبيا أو في أفغانستان، أن يقول رغم كلّ الموت والإرهاب المتفشي والفوضى المسيطرة على كلّ شيء، أن يقول للأميركيين، نعم الوضع لم يكن جيداً ولا مثالياً مع طالبان ولا مع صدام حسين ولا مع معمر القذافي، وتقييم كلّ من عهود هؤلاء يستحق بحثاً منفصلاً، لكن الأكيد أنّ الوضع ليس أفضل مع جهودكم ومساعيكم الكاذبة والمنافقة باسم حقوق الإنسان والديمقراطية ومنع أسلحة الدمار الشامل ومحاربة الإرهاب.
– يقف الرئيس الأميركي أمس ليقول إنّ الوضع بعد نهاية الحرب الباردة، قد صار أفضل وأكثر أمناً، ويضيف لقد زال خطر المواجهة النووية، والحروب الكبرى، وانتشرت الديمقراطيات وتضاعفت، ويفترض أن يقف العالم كله ويصفق لفيلسوف عصره صانع معجزات السلام باراك أوباما، وقبل مناقشة ما يريد أوباما إقناعنا به بلا نقاش، بل أن ينتزع قبولنا به كبديهية ومسلمة لا تناقش حول العالم الأشدّ أمناً، من حقنا أن نسأل ونهاية الحرب البادرة هي الإنجاز الذي يريد أوباما أن يباهي به كعنوان لثلاثين سنة من السياسة العالمية، فهل يملك أوباما وقد صار العالم بين يدي حكومة بلاده أن يخبرنا، أنّ حكومته التي تحتفل بنصرها بالسيطرة على العالم وتسمّيها إنجاز نهاية الحرب الباردة، وهي تقصد بنهاية الحرب الباردة نجاحها بتفكيك الاتحاد السوفياتي وانهيار مكانة روسيا كدولة عظمى تشارك أميركا وتنافسها على زعامة العالم، هي الحكومة العالمية لثلاثة عقود، فما الذي منعها من حلّ أقدم قضية عالقة منذ سبعين سنة، وهي القضية الفلسطينية، والفشل هنا سابق ولاحق للحرب الباردة، ومردّه قول شهير لأوباما تعليقاً على رفض رئيس حكومة بيت العنكبوت بنيامين نتنياهو مشروع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون للسلام، بقوله لن أضغط على نتنياهو.
– في المقابل كيف صار ممكناً قبول إيران نووية بعد عقوبات وحصار ثلاثة عقود، بشروط كان ممكناً قبولها دون عذاب وتشريد وتجويع ملايين الإيرانيين، وكيف صارت كوبا المحاصرة منذ نصف قرن بصفتها طاعون القارة الأميركية، صار ممكناً التعايش معها بشروط كانت متاحة دائماً، ولماذا لم يحدث هذا إلا بعدما عادت الحرب الباردة؟ وهل كان ضرورياً كلّ هذا التعذيب للكوبيين، حتى تتكفل عودة الحرب الباردة بفرض الانفتاح عليهم، والحديث عن عودتها هنا أميركي المنشأ ومن قلب إدارة أوباما تعقيباً على عودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية، فإذا حسبنا لأوباما وحكومة بلاده إنجازات سلام كالتفاهم مع إيران والانفتاح على كوبا، فسوف نحسبها لعودة الحرب البادرة وليس لنهايتها، لتصير الخلاصة الأولى أنّ «إسرائيل» بقيت فوق القانون قبل الحرب الباردة وبعدها، ولم تكن الحماية الأميركية لجرائمها واحتلالها بسبب الحرب على الشيوعية والحاجة لموقعها العسكري الجغرافي، وأنّ الانفتاح الأميركي واعتماد لغة التفاوض والسياسة والدبلوماسية لم تكن في القاموس الأميركي في زمن صعود القوة الأميركية وتفرّدها، بل إنّ هذا الظهور جاء مرتبطاً بتراجع هذه القوة وعودة روسيا للظهور كقوة صاعدة وما وصفه الأميركيون بعودة الحرب البادرة.
– في مناقشة كلام أوباما عن عالم أكثر أمناً بنهاية الحرب الباردة، لا بدّ من أن نضع جانباً أكذوبة أنّ تفكيك الاتحاد السوفياتي وضرب مكانة روسيا شكلا ضمانة عدم وقوع حرب نووية، فمن جهة الردع المتبادل هو الذي شكل ويشكل الضمانة لعدم وقوع هذه الحرب، ومن جهة ثانية فإنّ خطر استخدام السلاح النووي في زمن الفوضى بعد تفكك دول الاتحاد السوفياتي السابق كان أكبر من زمن الإمساك بقرار استخدام هذا السلاح، ضمن المعادلة الكبرى لدولة عظمى قوية ومتماسكة، وفقاً لما صدر من تقارير أميركية في التسعينيات تعكس هذا القلق ومن تصريحات علنية للمسؤولين الأميركيين، من جهة ثالثة لم يستخدم السلاح النووي إلا يوم تفرّدت أميركا باستخدامه بلا رادع يقلقها، كما جرى في الحرب العالمية الثانية، فإن كان للعالم أن يقلق فعليه القلق كلما اقتربت أميركا من استعادة هذه الفرادة. وبالمقارنة على كلّ حال لأمن العالم بين الحرب الباردة التي غادرت مع سقوط جدار برلين، والحرب الباردة التي عادت مع عاصفة السوخوي، تكفي مقارنة تقارير الأمم المتحدة عن أعداد ضحايا الحروب التي أشعلتها أميركا وآخرها حروب ما سمّته بالربيع العربي، وأعداد اللاجئين، ونسبة التطرف والإرهاب، وهما باعتراف مسؤولين أميركيين كبار صناعة أميركية بامتياز، وفقاً لنظرية دع عدوك يقتل عدوك الآخر، لأنك لا تملك القدرة على بذل الدماء، وكلاهما يملكها، التي أسس مستشار الأمن القومي الأميركي في الثمانينيات، زبيغنيو بريجنسكي، تنظيم القاعدة على أساسها بالتعاون مع بندر بن سلطان لمواجهة الدخول السوفياتي إلى أفغانستان، ولا يزال الفيلم الأميركي الطويل مستمراً.
– ببساطة شديدة، يستطيع أوباما أن يستفتي سيدات البيوت في العالم عن مقارنة شعورهن بالأمن والأمان العائلي والاجتماعي والمالي، بين السبعينيات واليوم، زمن الحرب الباردة وزمن نهايتها، وسيكون الجواب رزق الله على أيام زمان، كان للراتب قيمة، وللأسرة قيمة، وللأخلاق قيمة، وللأمن قيمة، وكان للتعليم قيمة، وكان للموسيقى والغناء والأعياد والأعراس قيمة، وكان للفلسفة والسياسة والصحافة والدين قيمة، لأنّ الذي انتصر مع نهاية الحرب الباردة هو الزمن الأميركي، زمن الفساد والمخدرات، والموسيقى التافهة والفن الهابط، والانحرافات الأخلاقية، فانتصرت الشعوذات الخرافية على الأديان، والموت على الحياة، والفوضى على الاستقرار، والكراهية على الحب، والبروباغندا على الفلسفة، والغش على الجدية والإنتاجية، والمظاهر الفارغة على الثقافة والتعلم والتمسك بالقيم، والفردية الميتة بلا روح على روح الجماعة العائلية والوطنية والإنسانية، وانتصر البذخ والترف على القناعة والفرح، والتعالي والتباهي على فعل الخير والتواضع، كلها إنجازات يستطيع أوباما نسبتها للحقبة التي تقود فيها بلاده العالم، حتى مقاييس الجمال المعلبة مع عارضات الأزياء وثقافة هوليوود انتصرت على روح الأنوثة، فهل هي مصادر للقول إنّ العالم صار أفضل أو أجمل أو أكثر أمناً أو مصدراً للثقة والأمل والتفاؤل؟
– يعود البهاء للعالم والأمل بخير مقبل، لأنّ الحرب الباردة عائدة مستر أوباما.
(البناء)