الحالة الصحية لكلينتون وتداعياتها د.منذر سليمان
يجمع المشهد السياسي الاميركي على ان المرشحة كلينتون بخبرتها وحضورها الطويل هي الاشهر والاكثر اثارة لجدل الحياة السياسية، واسهمت خبرتها المتواصلة وديمومة بقائها في المشهد العام في حسم الاراء الشعبية نحوها منذ زمن، على أقل تقدير. لهذا دلالته على ما يمكن للمرء توقعه من انحياز قطاعات من الناخبين في اللحظات الاخيرة، كما يراهن الحزبين عادة .
تتميز الحملة الانتخابية الحالية بتراجع اولويات القضايا السياسية والاجتماعية، قبيل انعقاد الانتخابات بنحو 50 يوما، واستبدالها بنواحي خاصة بشخصي المرشحيْن، تسهم فيها وسائل الاعلام المتعددة بدور محوري، والتي رسخت في ذهن المواطن العادي “ضرورة” تتبع السلوك والمظهر الشخصي للمرشح، بشكل اساسي، وما تبقى من وقت يمكن توزيعه على القضايا الاخرى.
تعرضت هيلاري لحالة اغماء مطلع الاسبوع امام انظار الجمهور ووسائل الاعلام على السواء، اضطرت على اثرها لتعديل برنامجها اليومي والخلود الى الراحة على الفور. سارعت حملتها الانتخابية لتدارك الأمر والقضاء على تسريبات تبتعد عن الدقة والمهنية، وافرجت تدريجيا عن بعض اعراض السيدة كلينتون قائلة انها تعاني من التهاب رئوي، ووصفت السيدة كلينتون ما أصابها بعد ساعات معدودة بأنها تعرضت “لارتفاع في درجة الحرارة.”
بيد ان المسعى لم يكلل بالنجاح او يشفي غليل المؤيدين والمتربصين على السواء. المعلق في شبكة فوكس نيوز، إد كلاين، زعم ان المسألة “أعمق من مجرد التهاب رئوي،” مضيفا ان زوجها الرئيس الاسبق بيل كلينتون يدرك مدى ازمة زوجته الصحية “وناشدها منذ بضع سنوات دخول المستشفى واجراء فحوصات طبية شاملة،” بيد انها رفضت العرض. واردف كلاين ان نوبة الاغماء تكررت مرارا في حياتها الخاصة، لكن الحادثة الاخيرة هي الاولى على مرآى ومشهد الجميع.
تعليقات المحللين سلطت الضوء على ما تتهم به الدائرة الضيقة لكلينتون بانها تبذل قصارى جهدها “لاخفاء الأمر .. وتشييدها حائط منيع من السرية يماثل جدار ترامب” في مدى الاهتمام الذي يقارب الهوس. بعض المؤيدين لكلينتون في الادارة الاميركية اوضحوا ان “الحالة الصحية ليست منبع قلق بقدر ما هو الافراط في السرية والتكتم ” وهكذا غاب عن المسرح والتداول تشخيص آراء وتوجهات المرشحة كلينتون الحقيقية وميلها للتدخل العسكري في العالم، اذ تنبيء بعودة المحافظين الجدد لتبوأ مراكز صنع القرار، لا سيما في ظل غياب او تغييب اي اثارة لعدد من مؤيديها المدانين بالمجازر: هنري كيسنجر ومادلين اولبرايت. المرشحة كلينتون لم تضمر يوما تأييدها الشديد لتطوير اسلحة نووية حديثة “تكتيكية” لاستخدامها في حروبها “التقليدية.”
الإعياء وفكرة البديل
عقب الاعلان عن “النوبة” تسابقت الاراء والمقترحات لدفع قيادات الحزب الديموقراطي نحو الاقدام على اتخاذ خطورة “استباقية” بالتحضير لتعيين مرشح بديل للمرشحة كلينتون، ان تطلب الأمر، وما لبثت ان تلاشت تلك الدعوات فور تصريح الرئيس اوباما الحاد بدعمه خليفته المقبلة في اليوم التالي امام حشد انتخابي في مدينة فيلادلفيا. وشدد الرئيس اوباما علن ان المرشحة كلينتون “بحالة عقلية ممتازة.”
في الفترة الزمنية عينها، استطاع المرشح المنافس دونالد ترامب تجسير الهوة الفاصلة بين المؤيدين، وكان المستفيد الاول من “نوبة” هيلاري اذ سرعان ما عزز نسبة تأييده بين الناخبين الى معدلات أعلى لم تكن في الحسبان.
يشار الى ان السيدة كلينتون شنت هجوما حادا غير مسبوق على انصار ترامب، قبل يومين من تعرضها للاغماء، واصفة جمهوره بازدراء شديد وان نصفه يشكل “سلة من التعساء واليائسين،” منتهكة احد المعايير الانتخابية السائدة بتقبل الاساءة الى شخص المرشح، والتعامل الحضاري مع الجمهور الانتخابي بشكل عام.
تراجع “شعبية” السيدة كلينتون، مع احتدام السباق الرئاسي لا يبشر خيرا قيادات الحزب الديموقراطي، خاصة وان نسب الفوارق السابقة كانت تميل لصالحها بمعدل يدعو إلى الارتياح. قادة وانصار الحزبين يترقبون بشغف ما ستسفر عنه الحالة المرضية للسيدة كلينتون في اعقاب تقرير طبي رسمي يوصف النوبة بدقة بعدما انبرى لتحليل “النوبة” عدد من الاخصائيين في كبرى كليات الطب، احدهم محاضر في الطب بجامعة بوسطن، توبي بيركويتز، اعتبر عزم حملتها الانتخابية “التقليل من أهمية الحالة الطبية،” أمرا اساء لها بشدة. واردف ان اي محاولة تلطيف قد تقدم عليها الحملة لن تفلح في اخفاء جدية ما تعرضت له او الاطاحة جانبا بالرأي العام بعد اطلاعه على هشاشة اللحظة.
وشاطر بيركويتز اراء بعض المتفائلين بأن انشغال العامة بنوبة كلينتون ابعد عنها نصال السهام السياسية الموجهة لفضيحة بريدها الالكتروني، وكذلك القفز عن تداعيات تصريحاتها بازدراء مؤيدي ترامب “البؤساء.” وقد اشار البعض الى تباين رواية الرئيس الاسبق كلينتون، بعد يومين من الحادث، عن حال زوجته قائلا انها “ستسأنف حملتها الانتخابية فور تعافيها من حالة انفلونزا.”
تشخيص الحالة طبيا حسمتها طبيبتها الخاصة، ليسا بارداك، باصدارها لتقرير موجز يصف ما تعرضت اليه من “التهاب رئوي غير معدٍ،” ووصفت لها تناول علاج بالمضادات الحيوية. واضافت الطبيبة، ورئيسة قسم الامراض الباطنية في مجمع كيرماونت الطبي بولاية نيويورك، ان السيدة كلينتون راجعتها عدة مرات في الاسبوع السابق، وما توصلت اليه هو تعرضها لالتهاب رئوي خفيف.
بيد ان التقرير المهني لم يضع حدا للتكهنات خاصة لبعض المنافسين والمهتمين بحالة جهازها العصبي، نظرا لتكرر الحادثة في السابق وربما بصورة أشد، فضلا عن رفضهم اعتبار التقرير الطبي “كاملا ونهائيا.”
الرئيس التنفيذي لجمعية الاطباء الاميركيين وطبيبة جراحة، جاين اورينت، قالت لبعض وسائل الاعلام المحافظة في اليوم التالي “ما يعنيني بشكل اكبر هو السجل الكامل واحتمال تعرضها لعوارض جدية مثل الارتجاج الدماغي .. والذي سيترك تداعياته على قدرة القراءة والكتابة والتفكير، او تجلط دموي في احد الشرايين الرئيسة في الجيوب الأنفية العرضية ووظيفتها في التصريف.”
واردفت “اورينت” ان مراجعة عدد كبير من اشرطة الفيديو للسيدة كلينتون تدل على “تعبيرات في الوجه غير مفهومة،” مما يشير الى احتمال تعرضها لنوبة او نوبات صرع التي قد تدل على تعرض الدماغ لصدمة في فترة سابقة.
قسم آخر من الاخصائيين فسر تغيرات الوجه المشار اليها بأنها ناجمة عن تعرضها لعوارض اولية لشلل باركينسون الرعاشي او الاهتزازي، ربما اصابها عام 2005 تقريبا. بيد ان الاستدلال على تلك النتيجة يستوجب اجراء سلسلة فحوصات للجهاز العصبي، الأمر الذي لم يأتِ ذكره في تقرير طبيبتها الخاصة.
انضم الحارس الخاص السابق للسيدة كلينتون، غاري بيرن، الى حكم شبه جازم بتعرضها لمرض باركينسون، وهو الذي رافقها في حلها وترحالها منذ عام 1999 ولغاية عام 2003.
وزاد بعد مشاهدته الفيديو الشهير ان الأمر “المثير للقلق .. انها قصدت شقة ابنتها السكنية بدلا من غرفة الطواريء،” لا سيما وان اجراءات الحراسة الخاصة تقتضي معرفة كافة افراد الطاقم الوجهة المثلى لأقرب مستشفى مهما كانت الظروف. واضاف ان ذلك المشهد يدل على رغبتها في تلقي العلاج بعيدا عن انظار العامة من قبل اخصائيين واطباء من اختيارها، بل ان طاقم حراستها المناوب ادرك على الفور ان شيئا غير عادي تعرضت له في تلك اللحظة وكان على أتم استعداد لكل الاحتمالات.
صحة ترامب
برنامج المرشح ترامب الانتخابي يشهد نشاطا اكبر ووتيرة تحرك اكبر من منافسته كلينتون، وهو في العقد السابع من العمر. تباهى ترامب بحالته الصحية “الممتازة،” واقراره بأن هناك زيادة في وزنه تبلغ نحو 15 رطلا، استنادا الى فحص طبي حديث العهد اجراه طبيبه الخاص، هارولد بورنستين، الذي زعم مؤخرا ان السيد ترامب “عند انتخابه سيكون الأصح بين الرؤساء عبر التاريخ السياسي” للكيان الاميركي.
مثابرة ترامب على الالتزام ببرنامج انتخابي مكثف يشكل تحديا اضافيا للسيدة كلينتون وفريق حملتها الانتخابية للحاق به على حساب حالتها الصحية، وهي التي بحاجة الى اثبات أهليتها الجسدية والعقلية للقيام باعباء منصب الرئيس والتغلب على الشكوك المتراصة امامها.
كلينتون: احتمالات مفتوحة
تنشط الاجتهادات الفكرية في تحديد معالم المرحلة المقبلة في حال تعرض السيدة كلينتون “للوفاة او مرض يقعدها عن استكمال الحملة الانتخابية.”
الرئيس الاسبق للجنة الوطنية للحزب الديموقراطي، دون فاولر، والذي تربع على المنصب من عام 1995 لغاية عام 1997، ابان ولاية الرئيس كلينتون، ادلى بدلوه في المسألة مناشدا الرئيس اوباما وقادة الحزب الديموقراطي في الكونغرس بلورة آلية عمل للبحث عن مرشح بديل لهيلاري كلينتون على وجه السرعة، وذلك في سياق الاعداد لاسوأ الاحتمالات.
واشار فاولر بوضوح الى مثال استبدال الحزب الديموقراطي مرشحه لمنصب نائب الرئيس، توماس ايغلتون، عام 1972 بالمقرب من آل كنيدي، سارجنت شرايفر؛ موضحا انه المرة الاولى التي اقدم فيها حزب رئيسي على تعديل احد مرشحيْه في حمأة السباق الرئاسي.
واستدرك بالقول ان عملية التبديل آنذاك سارت بسلاسة ويسر ملحوظ، اما في حال السيدة كلينتون فمن المتوقع ان تتسم بالحدة والتشنج، وقد تدفع مؤيدي كل من نائب الرئيس جو بايدن والمرشح السابق بيرني ساندرز للعمل المكثف. ولهذا السبب، اضاف، ينبغي على قيادة الحزب الاعداد مسبقا وتفادي معارك جانبية ضارة، عبر الدعوة لانعقاد جلسة طارئة لاختيار المرشح الانسب او مرشح توافقي.
من بين التحديات العملياتية لبروز مرشح بديل عن السيدة كلينتون انتهاء اللجان الحزبية في معظم الولايات من اعداد قوائم الانتخابات الرسمية التي تظهر السيدة كلينتون، وربما يحتاج الأمر الى تدخل المحكمة العليا لفرض ادراج المرشح البديل.
محصلة الأمر في الحقيقة هو بعهدة الهيئة الانتخابية التي سيدلي اعضاءها غير المنتخبين باختيار المرشح الرئاسي، ونظرا لطبيعة تكوين الهيئة باعضاء حزبيين ملتزمين فان اختيار بديل السيدة كلينتون لن يكون عسيرا، في تلك الحالة.
نصوص الدستور الاميركي حسمت احتمال وفاة المرشح الرئاسي قبل ادائه اليمين الدستوري، يبرز المرشح لمنصب نائب الرئيس في المرتبة الاولى تلقائيا، وتوكل له مهمة اختيار نائب له ومصادقة مجلس الشيوخ عليه. ما عدا ذلك، فاي فراغ في المنصب يتم معالجته داخل الهيئة الانتخابية.
ابرز الاحتمالات
مسيرة السيدة كلينتون لمنصب الرئاسة تعد من اطول الحملات الانتخابية، بعد ان برزت ملامح رغبتها بذلك عام 2000، وشرعت منذئذ في الاعداد التدريجي والتخطيط الدؤوب لنضوج الظروف الضرورية. ومن غير المرجح ان تقدم السيدة كلينتون تلقائيا على التخلي طواعية عن تجسيد حلمها، ان لم تتعرض لحالة وفاة او غيبوبة لا عودة منها.
وربما ستمضي الرياح بعكس ما تشتهيه سفينة كلينتون وعدم قدرتها تجسير الفواصل الشعبية الكبيرة في الفترة الزمنية القصيرة المتبقية، الأمر الذي سيحفز قيادة الحزب الايعاز لها بالتنحي ولو مكرهة.
امام هذا الاحتمال، هناك شبه اجماع على شخص الرئيس اوباما لابلاغ السيدة كلينتون القبول بموقف تبغضه بشدة، وهي تدرك تماما ان “انسحابها” يعني نهاية نفوذ جناح آل كلينتون داخل الحزب الديموقراطي، وما سيتركه من انعكاسات سلبية على استمرارية تمويل مؤسسة كلينتون الخيرية.
وقد يتم تجنيد بعض كبار الاثرياء الداعمين للحزب الديموقراطي بممارسة دورر ضاغط على السيدة كلينتون للتنحي، مقابل التبرع السخي بملايين الدولارات للمؤسسة المذكورة، بيد ان العقبات القانونية تبرز كأكبر عائق اما هذا الخيار لتعارض التبرع بمبالغ كبيرة مع نصوص القوانين السارية بذلك.
وربما يجدد التاريخ تجسيد حلم نائب الرئيس جو بايدن بتبوأ المنصب يعينه في ذلك قربه الشديد، لا سيما فكريا ومباديء، من القيم التي يجسدها الرئيس اوباما، على الرغم من تقدمه في السن هو الآخر اذ يبلغ 73 عاما.
بعض الحالمين من قطاع المرأة شرع بطرح السيدة ميشيل اوباما للمنصب، طمعا في استعادة تأييد القطاعات الاجتماعية التي اوصلت الرئيس اوباما لولايتين رئاسيتين. من المستبعد ان تنظر السيدة اوباما بالأمر، وهي تدرك ما يترتب على المنصب من متاعب واعباء.
الاحتمال الاكثر واقعية يتمحور حول بقاء السيدة كلينتون في مكانها كمرشحة رئاسية، وتوزيع المهرجانات الخطابية على عدد اكبر من قادة الحزب الديموقراطي نيابة عنها، وضبط برنامج تحركاتها بقيود اكبر من السابق. امام هذا الوضع يتوقع ان تشهد الساحة الاعلامية انفتاحا اكبر من القائمين على حملتها الرئاسية لتفاعل اكبر وتقويض بعض الاسوار المقامة حول السيدة كلينتون، كما يطالب عدد كبير من مؤيديها ومناوئيها على السواء.