المحادثات والميدان بقلم: بنت الأرض
ما أن يتمكن الجيش العربي السوي من تحرير منطقة عزيزة من دنس الإرهاب، إلى أن تتعالى أصوات في الغرب قلقاً على المدنيين ورأفةً بوضعهم الإنساني، ومحاولة عقد هدنة لإدخال المساعدات لهم!!! بحيث أصبح التناغم بين وضع الإرهابيين والقلق الغربيّ عليهم أمراً ملموساً في أكثر من مفصل في الزمان والمكان. ذلك كي يثبت في أذهان الجميع أنّ هذا الغرب الذي احتلّ العراق بجيشه وجنوده قد غيّر فقط طرائقه، وقرّر أن يستخدم وكلاء له من عصابات إرهابيّة يتمّ تمويلها وتسليحها والتخطيط لها وتوجيه أعمالها عن بعد. وقد رأينا دولاً تدخل بجيوشها وأسلحتها الثقيلة حين عجزت هذه العصابات عن تحقيق الأهداف المرسومة لها. ولذلك فإنّ نتائج لقاءات لافروف وكيري في 9 أيلول يوضح دون أدنى شكّ أن صعوبة الحوار نابعة من كونه بين طرف يعبّر عن مصالح الذين استهدفوا سورية، وطرفٍ آخر وقف منذ البداية وقفة صلبة لحماية الدولة السورية والشعب السوريّ.
ماذا يحدث إذاً ؟ وكيف وافق من يدعم ويموّل ويسلّح أن يجلس على الطاولة مع من يحاول الحفاظ على سيادة الدولة السورية؟ عوامل كثيرة أوصلت الجميع إلى هذه النقطة التاريخية المرشحة للاستمرار، وربما للتعزيز والمزيد من القوّة في المستقبل. هؤلاء الذين خططوا لـ «الربيع العربيّ» استعادوا في أذهانهم نظرية الدومينو لدى احتلال العراق، وتوقعوا أنّه بعد تونس ومصر ستكون سورية لقمة سهلة لتغيير النظام فيها، والذي يعني تغيير هويتها السياسية بما يروق للكيان الصهيوني. ولكن تحالف روسيا والصين في الأمم المتحدة لدعم السيادة السورية شكّل سابقة في السياسة الدولية، وبالذات في المواجهة بين محور الشرق (روسيا والصين)، ومحور الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا). وقد ردّ الشعب السوريّ وجيشه لمحور الشرق هذا الموقف النبيل من خلال صموده، وبذل أغلى التضحيات في سبيل سلامة الوطن، ووحدة ترابه، واستقلال إرادته. ومضى الطامعون والمصمّمون على كسر شوكة سورية العربية المقاومة في مخططهم، واستقدموا كلّ مرتزقة العالم إلى الأرض السورية الطاهرة في محاولة مستميتة منهم لتنفيذ مخططاتهم والتي تعني تغيير وجه المنطقة والعالم. ولكن سورية وحلفاءها كانوا أكثر تصميماً في هذه المعركة المصيرية، ورغم ضعف إمكاناتهم المادية مقارنةً بكلّ إمكانات الخليج التي وضعت تحت تصرّف المحور الغربيّ، فقد استطاع محور الشرق الذي يدافع عن الحقّ والسيادة والشعب المظلوم أن يعزّز كلمته ومكانته على الساحتين الإقليمية والدولية، خلال سنين قليلة.
وإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر قمة العشرين التي عُقدت مؤخراً في الصين، وقمة العشرين التي عُقدت في مدينة برسبرن (أستراليا) في آذار من عام 2014، نرى مدى الشوط الذي قطعه محور الشرق بفرض وجوده وقوّته ومكانته على محور الغرب. ففي قمّة 2014 طلبت جولي بيشوب، وزيرة خارجية أستراليا، عدم السماح لروسيا بحضور القمة، ولكنّ دول البريكس اعترضت على الاقتراح وأحبطته ، ومع ذلك فقد كانت الصور الواردة من القمّة في ذلك الوقت تشي بعدم رغبة أحد من القادة الغربيين بالحديث مع الرئيس بوتن، بينما لاحظنا في القمة الأخيرة في الصين كيف احتلّ الرئيس بوتن والرئيس الصيني مكاناً مركزياً في القمّة، وكانت اللقاءات الثنائية بين روسيا والسعودية، والصين والسعودية، والاتفاقات التي عُقدت دليلاً آخر على توسّع مركزية الصين وروسيا على عرش العلاقات الدولية. لم يكن أحد ليتوقّع توقيع اتفاق بين روسيا والسعودية، لأنّ السعودية كانت دائماً رهن الإشارة الأمريكية، أي أنّ مثل هذا الاتفاق قد جرى بموافقة أمريكية. وهذا يعني اعتراف غربيّ ضمنيّ أننا ندخل حقبة جديدة، وهي حقبة تعدّد الأقطاب في هذا العالم. أما الرئيس الصيني، فقد نظر إلى أوباما وقال أنّ الصين ترفض التدخل بشؤون الدول الداخلية.
إذاً المسار التاريخي في العلاقات الدولية، وبالتناغم مع صمود الجيش العربيّ السوري، والشعب السوريّ رغم كلّ الآلام وجسامة التضحيات، قد وصل هذا المسار اليوم إلى نقطة العالم المتعدد الأقطاب. وها هي نتائج اللقاء الماراتوني بين كيري ولافروف، وبعد التشاور مع أوباما وبوتن، تحضر الولايات المتحدة إلى النقطة التي دعت إليها روسيا منذ سنتين ونيّف، ألا وهي الفصل بين التنظيمات الإرهابية، وما يسمّونه المعارضة المعتدلة، واستهداف التنظيمات الإرهابية من قبل الطيران الروسي والأمريكي. أوَ ليس هذا ما دعا إليه الرئيس بوتن مراراً وتكراراً من أجل تحالف دوليّ حقيقيّ ضدّ الإرهاب؟ موافقة الولايات المتحدة اليوم مع روسيا على مواجهة الإرهاب في سورية، وعلى أنّ المعارضة يجب أن تشمل جميع الأطراف، هي نتاج صمود سورية وروسيا وإيران ومحور المقاومة في هذه الحرب الشنيعة على سورية، وهي أيضاً اعتراف أكيد بفشل الإرهابيين ومشغّليهم من تحقيق أهدافهم في سورية، وإلا لمَ الانتظار سنتين قبل الموافقة؟ لأنّ الأمل كان ولا يزال موجوداً بتغيير موازين القوى على الأرض. وربما ليست من قبيل المصادفة أن يأتيَ هذا الاتفاق على وقع تقدّم الجيش العربي السوري في حلب وحماة وريف اللاذقية وغوطة دمشق، لأنّ دماء الشهداء وآهات الجرحى هي بالنتيجة التي خطّت بنود هذا الاتفاق، وهي التي ساهمت بشكل فعّال بتغيير مركز القوة في العالم من قطب واحد إلى عالم متعدّد الأقطاب. ولم يغفل لافروف القول أننا تشاورنا مع الحكومة السورية حول بنود الاتفاق، وأنها قد وافقت عليه، كما لم يغفل أيضاً التأكيد على الخروج من دائرة المتدخلين. هؤلاء المتدخلون هم الذين حلموا أنهم قادرون على تغيير هوية سورية، متناسين أنّ سورية، وعلى مدى عشرة آلاف عام، كانت عصيّة على كلّ الغزاة والأعداء الذين استهدفوها، وأنّ التضحيات التاريخية للشعب السوري هي التي صنعت هذه الهوية السورية الشامخة أبداً والحرّة دائماً.