ارتباك أميركي وتركي… وصلابة روسية دبلوماسية شدّ الحبال في المفاوضات الصعبة
ناصر قنديل
– تبدو الأيام والساعات حبلى بتقلّبات تجعل متابع أحداث المنطقة وتردداتها الدولية يفقد القدرة على معرفة الحقائق، حتى الأخبار الصحيحة تصير عرضة للتشكيك، فلا مجال للتحقق مثلاً من فرص انعقاد لقاء وزيري خارجية روسيا سيرغي لافروف وأميركا جون كيري، بعد التأكيد والنفي وعدم التأكيد، إلا إذا ظهر الوزيران وصدر خبر اللقاء بينهما، أو مرّ النهار من دون أن يلتقيا، فتسارع التطورات ليس ناجماً فقط عن ضيق الوقت المتبقي لترجمة ما يمكن التفاهم حوله إذا تم التفاهم الروسي الأميركي وإذا سلك التفاهم طريقه إلى الضوء وأبصر النور، ولا وقت لصناعة بدائل عنه، على الأقل بالنسبة للأميركي إذا صرف النظر عنه، لذلك يكون التسارع ولذلك يظهر الإرتباك، لكنهما تسارع وإرتباك على ضفة واحدة هي الضفة الأميركية .
– في المشهد الميداني السوري الذي يشكل محور التجاذبات والسياسات الدولية والإقليمية، تحاول تركيا ترجمة موقعها الجديد بأوسع مدى تتيحه مصالحها، فتطلق بالوانات اختبار عن فرضية توغل أعمق في الجغرافيا السورية، وتركيا تعتقد أن وقتها الثمين عند روسيا يتأتى من تعقيد التفاهم الأميركي الروسي. فهي الحصان البديل الذي سيضغط وجوده على الأميركي للتسريع بالسير في خطة التفاهم، ولذلك تحاول تركيا أن تفرض ثمن هذا الدور بقوة الأمر الواقع للحد الأقصى الممكن، فتخرج موسكو عن الصمت وتعلن القلق الذي يتخذ صفة التحذير من الخروج عن حدود المسموح والمقبول، وتذكّر تركيا أن ما تمّ من سماح لها به كافٍ لطمأنتها إلى عدم نشوء كيان كردي، وأن ما يتخطّاه يحتاج لتفاهمات أوسع وتموضع أوضح. فاحتلال المقعد الأميركي في التسويات فرصة ممنوحة لتركيا أكثر مما هو ضرورة قسرية على روسيا. وهذا معناه أن على أنقرة أخذ الالتزامات التي تتهرب واشنطن من أدائها، وفي مقدمتها الشراكة في الحرب على جبهة النصرة، واعتبار الجماعات المسلحة التي تتموضع معها جزءاً من الإرهاب الذي لا مكان له في الحل السياسي، وبالمقابل لا يحق لأنقرة التطلع للثمن ذاته الذي يعرض على واشنطن، لأن ما يمنحه انضمام واشنطن يتخطى على الأقل ما تستطيع أنقرة تقديمه للتسوية في توفير مظلة مجلس الأمن الدولي التي تشكل وفقاً للفهم الروسي أمراً غاية في الأهمية.
– تنطلق الحسابات الروسية من أن تركيا التي تريد تفادي نشوء خصوصية كردية على حدودها أمر لن تمنحها واشنطن الغطاء لتحقيقه، وأن التعاون مع موسكو وطهران ودمشق هو التعبير الموضوعي عن المصلحة التركية العليا لمفهوم أمنها القومي، ولا منّة ولا جميلة لتركيا في ترجمته، وعليها الإقدام نحوه بكل شجاعة. وبالمقابل ترى موسكو أنها مع حلفائها وحدهم يملكون البدائل التي يترجمونها في الميدان بالتقدم العسكري على الجبهات كلها، وهو ما سيتزخم كلما مرّ الوقت الذي يقول بتلكؤ المرشحين للتسويات، الأميركي أولاً، والتركي تالياً. وأن مَن يجب أن يقلق هم معارضو التسويات الذين يضعون ثقلهم لمنع حدوثها، لأنه عندما تسقط فرصها سيكون الميدان السوري قاسياً على الجماعات كلها التي يظن هؤلاء أن إحجام واشنطن وأنقرة عن التفاهم مع موسكو وطهران سيقدّم فرص حماية لهؤلاء، بينما الواقع هو العكس، فاستجابة هذه الجماعات لدعوات انضمامها إلى خيارات الابتعاد عن جبهة النصرة بات الطريق الوحيد لحمايتها بتسوية وبدون تسوية، وربما في التسوية تتاح فرص التحييد والمهل خلافاً لخيار اللاتسوية.
– الارتباك الأميركي الناجم بوضوح عن تجاذب تيار الرئيس باراك أوباما والوزير جون كيري من جهة وتيار المرشحة هيلاري كلينتون ووزيرالدفاع آشتون كارتر من جهة مقابلة، حيث تقول مصادر متابعة للشأن الأميركي أن وجهات النظر في واشنطن ليست متصلة بقراءات استراتيجية متعاكسة، بل بموقع السير في التسوية أو عدمه في المواجهة الانتخابية الحامية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث يسلم فريق كلينتون بالعجز عن تقديم بدائل للتسوية، ويقول إن اعتراضاته تنطلق من عدم امتلاك بدائل، لأن وجود البدائل يتيح تفاوضاً من موقع قوة، وأن التفاوض اليوم يشبه الإذعان للمشيئة الروسية، ويصير القلق من عدم تقيد الروس بها لنيل مكاسبها الانتخابية بحرب تحقق نصراً مبهراً على داعش، قلقاً مشروعاً مع شكوك فريق كلينتون بأن الروس سيفعلون أي شيء يساعدها في الفوز وأنهم يفضلون وصول منافسها دونالد ترامب. ولذلك يقول هؤلاء إن الأفضل هو التسوية، ولكن ليس الآن، بل بعد الانتخابات أولاً، وبعد مرور وقت يُستنزف فيه الروس والإيرانيون والحلفاء أكثر وأكثر.
– الساعات الحاسمة التي ترسم معادلة التفاوض، ستحسم لصالح ما هو أقل سوءاً بالنسبة للأميركيين، والأمر يتوقف على ما منحوه للجماعات المسلحة بما فيها جبهة النصرة لتحقيق ما وعدوا به من إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل استرداد الجيش السوري وحلفائه الكليات العسكرية وسيطرته على معبر الراموسة، وعندها سيتضح مدى إمكانية الرهان على حرب استنزاف من جهة، ومدى صحة القول بأن التخلي عن خيار التسوية يعني رهاناً على استنزاف لروسيا وإيران وسورية والحلفاء، أم هو فتح طريق لحسم من طرف واحد وانفراد بالمعادلة السورية والمعادلات المرتبطة بها، ليكون مصير اللقاء بين كيري ولافروف التأجيل وليس الإلغاء، فيوم ويومان تتسع لهما روزنامة الانتظار، والمهم أن يلتقيا هذا الأسبوع وتتبلور معهما صورة الإعلان عن السير بتفاهم يبدو أنه قدر لا مفرَّ منه ولا بديل عنه، ولا يزال العيد على موعد مع هدنة.
(البناء)