حول الانتخابات الأميركية
غالب قنديل
كان صعود المرشح الجمهوري دونالد ترامب واكتساحه لمنافسيه داخل الحزب مفاجأة الانتخابات الرئاسية الأميركية وصدمة للمؤسسة التقليدية في الحزب الجمهوري التي ترنحت وتساقط مرشحوها الذين دفعت بهم تباعا لاعتراض طريق مرشح من خارجها يقيم خطابه وتوجهاته على نقد عنيف للمغامرات العسكرية الكبرى التي قادها الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش وتلك التي شنها وواصلها خلفه الديمقراطي باراك اوباما ووزيرة خارجيته المرشحة الديمقراطية المنافسة هيلاري كلينتون .
يعبر ترامب عن مجموعة من الميول في القاعدة الجمهورية المحافظة أبرزها الارتباط بين الانكماش الاقتصادي الخطير والمستدام وبين الحروب الأميركية المستمرة منذ مطلع القرن والتي اختبرت فيها المؤسسة الحاكمة طريقي الغزوات العسكرية المباشرة وحروبا اخرى بالوكالة شنتها بواسطة جماعات التكفير والإرهاب القاعدية.
الوقائع التي يستند إليها رفض الحروب في الشرائح الرأسمالية ولدى الطبقات الوسطى كثيرة وأهمها الأزمات المالية والاقتصادية التي تعيشها الولايات المتحدة منذ انهيار البورصة وما تبعها من تعويم للبنوك وللشركات المالية باموال عامة في حين تواصل الانكماش وتزايدت البطالة وحالات الإفلاس وإغلاق آلاف المصانع والشركات بفعل منافسة الشركات الأميركية التي تنتج في الصين وغيرها من الدول ذات الكلفة المنخفضة ثم تصدر منتجاتها إلى الأسواق الأميركية المفتوحة مما يرتبط به إفلاس آلاف الشركات الأميركية المحلية .
رفض ترامب لنزعة حروب التدخل يقترن باعتراضه على الحدود المفتوحة ونقده لاتفاقيات التجارة العالمية في دعوة غير مباشرة لحماية جديدة لصالح الصناعات الأميركية الصغيرة والمتوسطة وبالتالي الحد من تحكم الشركات المالية والبنوك إضافة إلى الدعوة لإعادة تأسيس البنية التحتية المنهارة التي تراجعت حصتها من الإنفاق الفدرالي رغم تحذيرات معهد ماساشوستس للأبحاث والتكنولوجيا ( MIT ) قبل عشرين عاما بنتيجة مسح شامل طال المدارس الحكومية والمطارات والطرقات العامة والسدود وشبكات الكهرباء ومحطات توليد الكهرباء بالطاقة النووية محذرا من كوارث كبرى مالم توضع خطة قومية تدرج إعادة تاهيل البنية التحتية الأميركية ضمن الأولويات بينما تم تكريس الإنفاق على الحروب كأولوية مطلقة.
ليس ادل على الأزمة الخطيرة داخل الولايات المتحدة نتيجة هدر الموارد في الحروب وفي إسعاف مافيا وول ستريت من مأساة مشردي إعصار كاترينا الذين مضت سنوات عليهم دون مأوى في اماكن لجوء مؤقتة ويجري التعتيم الإعلامي على هذه الكارثة الإنسانية الأميركية الناتجة عن سياسة حكومية تتحكم باولوياتها حماية الهيمنة الأميركية على العالم التي كلفت تريليونات الدولارات بينما تتباكى وسائل الإعلام الأميركية على مشردي الحروب التي أشعلتها واشنطن في البلاد العربية وأفريقيا .
ترامب يدعو إلى التفاهم الدولي الممكن بالتفاوض مع روسيا والصين لتسوية النزاعات بينما هيلاري تقرع طبول الحرب وتتبنى سياسية تصعيدية تفاقم التحريض ضد القوى العظمى الجديدة الصاعدة وهكذا يعبر المرشح الجمهوري عن نزعة ما بعد الحروب الخاسرة التي عاشها اليمين الأميركي مرارا منذ هزيمة فيتنام .
عنصرية خطاب ترامب ضد المهاجرين تعكس واقعيا نقمة العاطلين عن العمل والمهددين بالركود امام منافسة اليد العاملة المهاجرة المتاحة في السوق الأميركية بكلفة أقل على حساب المواطنين الأميركيين والمقيمين بصورة شرعية في الولايات المتحدة وهذه النزعة بتعبيراتها تشمل جميع قوى اليمين في دول الغرب التي تصعد مؤخرا بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية التي ليست عابرة وتشير الوقائع إلى انها مقيمة لسنوات طويلة قادمة .
ترامب يعبر عن تلك العوامل وسواها في الواقع السياسي الأميركي الذي يعيش اضطرابا كبيرا مع اهتزاز الحزبين الرئيسيين في البلاد فالديمقراطيون انتجوا على وقع العناصر والتفاعلات ذاتها تيارا يساريا بزعامة بيرني ساندرز بينما نزح المحافظون الجدد من المعسكر الجمهوري إلى فريق المرشحة الديمقراطية التي تقود حزب الحرب الأميركي.
ترجح التوقعات ان تشهد نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة توازنا دقيقا يصعب معه التنبؤ مسبقا بالنتائج بل إن كثيرا من الخبراء يتوقعون ظهور جدال جديد في الأرقام والحسابات كما جرى لدى انتخاب دبليو بوش لأن الفائز سيكون متقدما بفارق قليل على الأرجح وفي الخلاصة : الولايات المتحدة ومؤسستها الحاكمة تحت وطاة اضطراب كبير في الخيارات وسط ازمات وتحديات غير مسبوقة بعد تصدع الهيمنة الأحادية وخسارة العديد من حروب الغزو والتدخل فهل يختار الأميركيون تصعيد النزعة الحربية المدمرة ام الانكفاء عن الغزوات لإعادة تأهيل دولتهم واقتصادهم ؟ سؤال ربما تقع الإجابة الفعلية عليه خارج صناديق الاقتراع.