روسيا واميركا و”الشراكة” الصعبة
غالب قنديل
يمتد الحرص الدبلوماسي الروسي ويتوسع حتى المبالغة كما يعتقد البعض بالحديث عن الشريك الأميركي منذ سنوات بمناسبات وملفات كثيرة لاسيما في سورية وكلما عقد لقاء ثنائي جديد او لاحت احتمالات قمة بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي يتجدد الخطاب عن شراكة القطبين من غير اعتراف اميركي واضح بالندية إزاء الدولة العظمى الناهضة من عقود التهميش والاستباحة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي وقيام الهيمنة الأحادية الأميركية كمنظومة عالمية مسيطرة .
رغم العنجهية الأميركية المتأصلة فإن ما جرى في الموضوع السوري كان منذ أيلول عام 2013 بمثابة مساعدة روسية مباشرة للولايات المتحدة على التراجع بكرامة عن مغامرات مكلفة وكارثية على المنطقة والعالم والمصالح الأميركية نفسها.
في واشنطن وداخل غرف التخطيط ومعاهد الدراسات ورسم السياسات تعتبر روسيا قوة إقليمية لا شريكا دوليا وتعمل الإمبراطورية كل ما لديها لخنقها اقتصاديا بالعقوبات التي آذت دول الغرب الأوروبي كثيرا لاسيما ألمانيا وفرنسا وبريطانيا التي تساهم في المسعى الأميركي لتطويق روسيا عسكريا بنشر المزيد من قوات الناتو وبطاريات الدرع الصاروخي من تخوم روسيا في اوروبا الشرقية إلى هضبة الأناضول التي يقودها أردوغان الحليف المتململ الذي يغازل موسكو ويطلب ودها دون ان يتخطى عتبة التبعية لواشنطن وحلفها الأطلسي.
يتناسى كثير من الانطباعيين احيانا ان روسيا تعاني من عقوبات اميركية وأوروبية منذ الانقلاب الأوكراني الذي دبر في كواليس الخارجية الأميركية وانها ما فتئت تحذر من التحركات الاستفزازية الموجهة ضدها في العديد من مناطق نفوذها التقليدية السليبة الممتدة في الشرق الأوروبي وفي العمق الآسيوي وهم يتناسون كذلك ان اللقاءات الثنائية التي تعقد في موسكو لم تكن سوى ثمار لصمود سورية وشركائها ولمبادرات هجومية روسية وقعت في الميدان السوري وأجبرت الأميركيين على التفاوض خشية انهيار منظومة العدوان التي أقاموها ومولتها الحكومات التابعة لواشنطن في الخليج بحشد عالمي للإرهاب بقصد تدمير سورية وما يزال التعنت الأميركي مستمرا بالتحايل والمناورات التي لم تنقطع رغم استنفاذ معظم الرهانات والأوراق بما في ذلك الطاقة الاقتصادية والمالية السعودية الخليجية وكذلك رغم استهلاك قدرة تركيا على لعب دور المنصة الرئيسية لتلك الحرب العالمية نتيجة التفاعلات والأخطار المرتدة إلى العمق التركي ما زال الجانب الأميركي مصمما على إطالة امد العدوان وتحويله إلى حرب استنزاف لمنع نهوض سورية او عرقلته وتأخيره على الأقل.
تلاحق إعلان التفاهمات الأميركية الروسية حول سورية من موسكو منذ حزيران 2012 حتى اليوم بعد زيارات جون كيري وزير الخارجية الأميركية ولقاءاته مع نظيره الذكي واللبق سيرغي لافروف واحيانا مع الرئيس فلاديمير بوتين ومعها تواصل التنصل الأميركي من الالتزامات التي سرعان ما جرى عكسها على الأرض بينما قابلت واشنطن بالتمييع والمماطلة إلحاح الروس في قضايا الإرهاب وفرز الجماعات المسلحة العميلة عن القاعدة وداعش بشريا وجغرافيا ورغم كل الجهود الروسية المبذولة يصطدم الإصرار الروسي بمماطلة اميركية متعمدة لممارسة ابتزاز سياسي تهدف واشنطن من ورائه لفرض مواقع مضمونة لعملائها في المستقبل السوري ولاختبار الإملاءات الممكنة لتحجيم دور سورية الإقليمي وموقعها الحاسم في محور المقاومة الذي تعززت لحمته وتعاظم دوره في شراكة حزب الله وإيران مع الدولة الوطنية السورية لصد العدوان الاستعماري وبالتعاون مع روسيا والصين.
ينطلق الجانب الروسي من رؤية متوازنة لمستقبل العلاقات الدولية قاعدتها القانون الدولي والمفاهيم المبنية على العدالة والتعاون في مجابهة الإرهاب ورفض الهيمنة بينما تتصرف الولايات المتحدة كإمبراطورية استعمارية تريد تدعيم سيطرتها ونهبها وتحكمها بمصائر الشعوب وتسعى لمنع اهتزاز هيمنتها الأحادية على العالم طيلة ربع القرن الأخير وهي في المنطقة تقود حلفا رجعيا صهيونيا يشن الحروب مباشرة وبواسطة عصابات التكفير والإرهاب تحت الإشراف الأميركي .
من سورية تسقط روسيا عقيدة الأمن القومي الأميركي التي صدرت في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي حول منع قيام قوى عظمى منافسة في العالم ويعلم المخططون الأميركيون ان الإمبراطورية الروسية التي ليس لها أي ماض استعماري أصلا حاضرة من الميدان السوري كقوة عظمى منافسة كاملة المواصفات في مجالي الطاقة والسلاح اللذين تقوم عليهما دعائم المصالح الأميركية في العالم ومن سورية ترتسم منظومات شراكة قوية مع روسيا وإيران والصين تخشاها الولايات المتحدة والحكومات التابعة لها.
الشراكة المتكافئة التي تنشدها روسيا باتت اليوم توجب تنفيذ خطط الحسم في الميدان السوري ودعم الصمود اليمني بكل الوسائل الممكنة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا ثم تطوير المعادلات القاهرة التي تجبر الإدارة الأميركية الآفلة والمقبلة على التعامل الندي كما تتطلب السعي المستمر لحشد المزيد من الحكومات والدول الرافضة للهيمنة الأميركية في العالم وهو ما يطرح خطوات لا مفر منها لتعاون روسي صيني اوثق مع سورية والعراق وإيران واليمن وشركاء البريكس لمجابهة الحروب الأميركية الناعمة والخشنة في كل مكان من العالم خصوصا بعدما أثبتت مؤخرا أحداث البرازيل والأرجنتين وبوليفيا وفنزويلا ان النهج الأميركي الاستعماري مجبول بالأحقاد وبالنوايا الخبيثة وبتصميم على الانتقام ممن يرفعون رايات التحرر والاستقلال فالغطرسة الاستعمارية لا تفهم سوى لغة القوة بكل تجلياتها وأشكالها الممكنة.