كلمات في غياب سمير يزبك
غيّب الموت أمس الفنان الكبير سمير يزبك عن 77 سنة، بعد صراع مع المرض، غنّى خلالها المواويل إلى جانب عمالقة الطرب في لبنان والعالم العربي أمثال وديع الصافي، نصري شمس الدين، صباح، جوزف عازار، عصام رجّي وغيرهم .
فقال الكاتب احمد طي في صحيفة البناء انه ذات يوم جاءت السيدة فيروز إلى الصالون وكان يسرّح شعرها، فقال لها: «أريد أن أُسمعك صوتاً على المسجّلة»، وأسمعها الصوت فذهلت وأعجبت به جدّاً، فقال لها: «إنّ هذا الصوت هو صوت سمير الذي يقوم بتمشيطك»، وفوراً، أخذته السيدة فيروز إلى الرحابنة وبدأ العمل معهم في الكورال عام 1961، ويقول إنه يفتخر بهذه المرحلة التي أفادته جدّاً وأثقلته صوتاً وموسيقى.
ثمّ تقدّم إلى إذاعة لبنان بأغنية الراحل وديع الصافي «لبنان يا قطعة سما»، وفاز بالمرتبة الأولى، وطبعاً تابع في الكونسرفتوار ودرس على آلة العود.
ومن هنا بدأت مسيرته الفنية مع أغنيته الأولى وهي للشاعر الراحل زين شعيب «طوّل غيابك يا حلو»، ثم توالت الأغاني ومنها: «روحي وروحك يا حلو»، و«يا مصوّر صوّر».
عام 1963 تعرّف إلى الملحن الكبير روميو لحود وأصبح بطلاً في مسرحياته، ومعظمها عُرض في بعلبك وبيت الدين والأرز، ومن هذه المسرحيات الغنائية: «الشلال»، و«القلعة» و«الفرمان» وغيرها، وبقي مع لحود حتى عام 1970.
ومن الستينات إلى عام 1975 كانت المرحلة الذهبية، وعند نشوب الحرب الأهلية، انتقل إلى سورية حيث كُرّم بشكل كبير من سورية الدولة والشعب الذي كان يردّد أغنياته بشكل كبير ورائع.
وكانت أغنية «دقي دقي يا ربابة» هي الأحب إلى قلبه، وهي من كلمات وألحان روميو لحود، وحازت على شهرة عربية وعالمية، مع العلم أن أغنية «اسأل عليّ الليل يا حبيبي» من الأغنيات المهمة جدّاً، ولكنها لم تأخذ حقها الكامل. كما أنّ سمير يزبك يعدّ من الأوائل في الموشّحات والمواويل إضافة إلى أن موال «موجوع»، رُدّد بشكل كبير وما زال حتى اليوم يحظى باهتمام الإذاعات.
وتابع جهاد أيوب وقال: هو من فرسان الأغنية اللبنانية، وصل إلى عالمها عن طريق الصدفة بعدما سمعه روميو لحود، وأعجبت بصوته السيدة صباح. لم يكن فوضاوياً لا في حياته ولا في اختياراته ولا في تعامله مع الناس والفنّ. هو مطرب الربابة وموجوع الموّال سمير يزبك.
عرفناه طبيباً يداوي بصوته جِراح السمع، وعرفناه حنوناً يتواصل مع الزملاء بكبرياء وحنين وصدق، وعرفناه خيّالاً صاحب المواقف المحبة والبيضاء، وعرفناه مطرباً كبيراً يقف في الصفوف الأولى.
وصل إلى الفنّ وكانت الطريق ممهّدة أمامه من قِبل كبار الفنّ اللبناني أمثال صباح ووديع وفيروز ونصري، وحاضر الفنّ يحتاج إلى النوع الجميل أمثال حنجرته الذهبية. وقف على مسرح الفنّ بثقة، لم يخن موهبته، لكن ظروف الوطن خانت أحلامه. لم يتعثّر بالنغم ولكن أيامه تعثّرت من رزق صعب المنال. ولم يغدر بالفنّ والزملاء والبلد، لكنّ تشتت الوطن والزعامات السياسية جعله يتوه بانتظار الذي طال.
سمير يزبك الذي غيّبه الموت أمس ليس مطرباً عادياً، بل هو بصمة في الزمن الجميل. غنّى بثقة عارمة وبتواضع الناجحين وبحنان النغم على الوتر، زاد النغمة العربية جمالاً، وأعطى من دون حساب، وثقّف نفسه وفنّه من تجاربه، وحمل لواء الفنّ دون غيره حتى انخرط مع الراية كأنه هو الراية.
عرفته قبل مرضه شهماً شامخاً، لا يعرف الغرور، ولا يقترب من الادعّاء، لا يسمح بالتدخّل في شؤون غيره، ولسانه مصان، ولا يتطاول على من علّمه الحرف والسلّم الموسيقي. في جلساته لا يسمح بالنميمة، وفي واجباته الاجتماعية كان حاضراً بقوّة الواجب، أما علاقته مع أسرته فهو الأب والأخ والطفل الحنون.
نعم، قصّرنا معك لا حقداً أو تجاهلاً، بل لأن زمننا قاحط، وصفحاتنا خاوية، ولغتنا الإنسانية تنتظر الأمل المهجور والرزق المغبون. تكالب عليك مرض السرطان وتكالبت علينا وحول الأيام. العلاقات الإنسانية التي كنت تنشدها وتعشقها ليست مهمة في زماننا الأجوف من العلاقات الحق. لحظاتك الجميلة التي زيّنتها بتصرّفاتك ومواقفك نحن غدرنا بها بحجّة الصورة الملوّنة وفتيات اللهو حيث أصبحن الفنّ المعاصر، وصيصان الغناء حيث أصبح الصوص هو المطرب، والمطرب من دون صوت.
سمير يزبك، كتبت مسيرتك بذهب أوجاعك، وحملت ما تبقّى لك من أمل لترحل إلى ربّ يعرف قيمة من يخلقهم. هناك ستجد ضالتك في جمال الروح المتسامحة، فنحن هنا لا نعرف أن نحافظ على النقاء والصفاء والسماح.
اما روبير فرنجية فقال: منذ صار لسان حاله أغنيته «موجوع»، وأنا أطرح علی لجان ومهرجانات التكريم إدراج اسم سمير يزبك علی جداول المحتفی بهم، والتي باتت بكبرها تشبه جداول لوائح الشطب عشيّة الانتخابات لكن الطلب رفض مراراً بداعي التأجيل.
سمير يزبك الذي غنّی ما يشبه حالة الناخب مع النائب والمناصر مع الزعيم «خلف حصانك مشينا والصدفة عم تلعب فينا»، رحل بعد معاناة في مواسم المهرجانات في كل لبنان، كأنه كان يتفرّج علی مواعيدها مسروراً مغنّياً «يا مصوّر صوّر لبنان بتطلعلك أجمل صورة»، وهي الأغنية التي يعدّد فيها غالبية مناطق لبنان علی غرار «جايين يا أرز الجبل» للعملاق وديع الصافي.
سمير يزبك الصوت الطافح بالرجولة ونُبل الخامة يرحل اليوم، فتستفيق إذاعات وتستذكر أغانيه «المهجورة» ـ المشهورة وغير المدعومة يوماً زمن الأصوات الشامخة تبحث عن شركات إنتاج بعدما كانت شركات الإنتاج في الماضي الجميل تبحث هي عن الأصوات الشامخة.
إنّه زمن التسوّل الموجع المفجع زمن «يا مين عَ شحّاد يهديني… ميشان سرّ الكار يعطيني»، «كار» الغاية تبرّر الوسيلة: كار الغناء والاصغاء بالأرجل.
سمير يزبك رحيلك سيعيد أغانيك إلى الهواء المنعش بعدما كانت في غرفة الإنعاش.
سنعيد بثّ حواراتك ونفتّش عن صوت يشبهك.
ستكون الخيبة كبيرة حين نخاطب ليل الأصالة سائلين عنك من دون مجيب.
ألم تكن وصيتك حين نفقد صوتك «اسأل عليّ الليل»، «أيّ ليل وأيّ نهار» و«ان مرّيت بهاك الحيّ لا تنسی تسأل عنّي» .
نسأل عنك في أيّ حيّ ونحن لم نسأل عنك حيّاً مفقوداً من الساحة فكيف نسأل عنك فقيداً؟!
اما اعتدال صادق شومان فقالت: سمير يزبك خانه القدر حين احتبس الصوت داخل الحنجرة، وقد شاء «الخبيث» أن ينال منه الوتر، فصار سمير يزبك «موجوعاً» ولم تشفِه «ملعقة من ريق الحبيب». وعندما أتعبه الداء والدواء في «قلب يسوع»، غنّى مواله الأخير «قلبي انجرح من هالدني وعمري انطوى»، فغاب الصوت قبل أوانه.
مزيّن الشعر الذي سرّح يوماً شعر فيروز بأنامله، لم يكن يدرك أنه سيغدو «خيّال» المسرح الغنائي في بعلبك وبيت الدين والأرز يغنّي المواويل إلى جانب جيل الكبار من وديع الصافي، صباح، نصري شمس الدين، وجوزف عازار… مع الرحابنة أولاً كانت باكورة أعماله «موسم العزّ» و«البعلبكية» و«جسر القمر» ليكمل الرحلة مع الفنان روميو لحود بأربعة أعمال منها «الشلال القلعة»، و«الفرمان»، ولتصبح أغانيه الأكثر طلباً في البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تقدّم إليها بأغنية «لبنان يا قطعة سما» لوديع الصافي، وأولى أغنياته كانت «طوّل غيابك يا حلو»، قبل أن تجتاح الحرب لبنان فغادره الى دمشق التي استقبلته بحفاوة على عادتها مع الفنانين اللبنانيين، ولم تبخل في تكريمه ليعود مع عودة الهدوء إليه. لكن مع الأسف، لم يتأخّر المرض كثيراً فغزاه ونال من عافيته، فَخَضع سمير لأكثر من عملية جراحية قبل أن يختنق الصوت وينقطع وتر الربابة في أغنيته «دقي دقي يا ربابة» التي أحبّها كثيراً .