فائض الوَهْم بين الانفصالي والتوسُّعي: علي قاسم
لا تبتعد المغامرة التي يغرق في شبر مائها الجناح المسلح لحزب العمال الكردستاني عن تلك المقامرة، التي يدفع رئيس النظام التركي ثمن أمواجها الارتدادية المترافقة بتسونامي من المتغيّرات الجذرية في التحالفات والمفاهيم وحتى المقاربات، رغم فارق الاختلاف القائم إلى حدّ التناقض بين الطرفين، حيث حلم السلطنة التوسعي بما يحمله من أوهام يحاكي حلم الانفصالي ذاته، الذي تتوّهمه ميليشيا الكردستاني عبر اعتداءاتها على مؤسسات الدولة في الحسكة، وعلى مواقع الجيش العربي السوري، مع فارق بسيط في المقاربة التي يحملها كلا الطرفين، تقود إلى الجزم بحيثيات المشهد الأميركي وفائض نفاقه، كما تؤشر إلى مساحة وحدود الأصابع «الإسرائيلية» الموغلة فيه كنموذج قابل للتكرار بنسخته العرقية والإثنية .
فالمحاكاة المشتركة هنا ليست في اعتماد الحليف ذاته، أو دائرة التحالفات والتقاطع في كثير من أطرافها فقط، وإنما أيضاً في مرارة النتائج وحتمية الكارثة التي تقود إليها اعتماداً على استنساخ التجربة مع الأميركي المتحوّل في وعوده والتزاماته حسب أمواج الارتداد السياسي، حيث العامل «الإسرائيلي» يَحضر باعتباره الكفيل الضامن للجانب الأميركي.. والممر الإلزامي الذي ينتهي عنده، والذي سرعان ما فكّ قيود تمترسه خلف الوَهْم التركي، كما سيفكّها عن نظيرها في الفصيل الانفصالي الموازي لاحقاً، ولهم في التجربة الماضية الكثير من الدروس التي تحتاج إلى إعادة تلقين إضافي، وإذا ما فشلت السياسة في ذلك، فلا شك بأن الميدان سيتكفل بها ولو بعد حين.
المشتركات بين الطرفين في التناقض الحاد لا تلغي سياق التشابه في الأسلوب والطريقة، حيث العداوة في الطموح لا تعني أبداً الصداقة للخصوم، ومعاداة طرف لا تعني أبداً الوقوف في خندق المواجهين له، فالخنادق تتعدّد بتعدّد الأطراف والمواقف، وتصل إلى حدّ الكارثة حين تكون تخندقاً شخصياً مبنياً على الوَهْم أو الوعود الكاذبة والـمُضللة، حيث تكثر المتاجرة بالأحلام وبيع الأوهام، وهذه المسألة محسومة في السياسة وإن بقيت عرضة لتجارب متكررة في الميدان.
الكارثة أن المنطقة لا تكتفي بما تواجهه من معضلات تعاني منها شعوبها ودولها على حدّ سواء، والتي تفيض عن قدرتها على الاستيعاب، بل تضيف إليها فصولاً من التورّم، وإن كان بعضها يحمل الكثير من الأعراض ذات الطابع الشخصي، الذي يتحوّل في أحيان كثيرة إلى مرض مُعدٍ بأعراض تتورّم فيها المواقف والمعطيات. وتصبح الأحلام في أغلبها كوابيس تتورّم داخلياً وخارجياً.
من فضائل العمل السياسي افتراضياً أنه لا يؤمن بالأحلام، ولا يأخذ بالافتراض ذاته أيضاً، بقدر ما يحاكي الواقع من منظور الإمكانات والظروف، وفي بعضها من مُنطلق التحالفات التي يتكئ عليها لتحقيق أحلام تبدو وفق صيغة ذلك الواقع أنها قادرة على الدفع بتلك الأحلام، غير أن الخلط غالباً يقع بين الطموح المشروع الذي تمتلكه دول وكيانات حقيقية قائمة على الأرض، وبين حلم بطابع شخصي يحاول أن يفرض سطوته على الآخرين.. وأن يُملي ما يظهر من استطالات على بقية أطراف تحالفه، بحيث يقوده من مستنقع إلى آخر ومن متاهة إلى أخرى دون أن يقدم ما يوازيها.
المفارقة أن يجتمع الشخصي مع العام، ويتحوّل ما كان يُفترض طموحاً إلى مجرّد كابوس بفعل الحسابات الخاطئة والوعود الكاذبة من دون أن يدرك بالفطرة أن السياسة لا تعرف تحالفات دائمة ولا صداقات مستمرة، بل تأخذ فقط بالمصالح.
في تجربة الأيام الأخيرة ما يَشي بالكثير أو ما ينطبق حرفياً على ما حدث سابقاً، وقد يحدث لاحقاً من مراجعات لا تنفع معها أصحاب الرؤوس المتورّمة ولا تفيد ميليشيا الوهم الانفصالي للعب بالجغرافيا، حيث الوعود الأميركية ليست سوى للاستهلاك والاستغلال إلى الحدّ الأقصى، ولهم في الوهم التركي بالتوسّع الكثير مما يجب أن يكون حاضراً أبداً، ومستمراً لا تحول دونه أي متغيّرات أو توهّمات وتمنيات.
فالمنطقة لم تعُد تحتمل التجريب ولا تقوى على استيعاب ما يفيض من تورّمات ومغامرات ومقامرات ومشاريع ذات طابع عرقي وإثني أو طائفي، والتجارب في التاريخ – قريبه وبعيده – شاهدة على الاستحالة، حيث البنية الجغرافية والتكوين الديمغرافي، والأهم الشروط السياسية لحالات المناكفة لا تكفي ولا تفي بالحدّ الأدنى من متطلبات الشَطط السياسي، التي تحاكي عقولاً مصطنعة أو تمنيات لأشخاص لا يكتفون بالتهوّر والحماقة، بل يصطفون على خطوط الاشتباك السياسي والميداني في مشهد الانتحار السياسي لإشعال لهيب لن يكتفي بإحراق المنطقة بقدر ما يعزز من مخاطر الانفجار على المستوى العالمي.
(البناء)