بعد “الغَزل” الروسي – التركي…. هل يمكن الوثوق بأردوغان؟ د. ليلى نقولا
قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، كان المسؤولون الأتراك قد أصدروا بعض التلميحات التي تشير إلى تغيّر ما في السياسة التركية تجاه سوريا، ترافقت مع اعتذار تركي من الروس حول إسقاط الطائرة الروسية، بالإضافة إلى “ضبط نفس” تركي غير مسبوق حيال تصريحات أوروبية كانت قد بدأت تصدر من هنا وهناك، تدين “الابتزاز التركي” لأوروبا، وتدعو إلى التنصُّل من تنفيذ صفقة اللاجئين وغيرها .
وحدهم الأميركيون بقوا في حالة تفاوض صعب مع أردوغان، تخلّلتها مراحل من الضغط والضغط المقابل بين الاثنين، فلا أردوغان رضخ بسهولة للمطالب الأميركية باستعمال قاعدة انجرليك في الحرب على الإرهاب، ولا الأميركيون قبلوا بالتهويل الأردوغاني حول الخطوط الحمراء بالتعاون مع الأكراد والسماح لهم بالوصول إلى مناطق معيّنة في سورية تسمح له بإنشاء “دولتهم” الموعودة.
اليوم، وبعد لقاء بوتين – أردوغان، وزيارة ظريف لتركيا، يتحدث كثيرون عن “انعطافة” تركية وتنسيق روسي -إيراني – تركي في مكافحة الإرهاب، قد تؤدي إلى حل سوري، أو على الأقل قد تؤدي إلى تخلٍّ تركي عن بعض الإرهابيين، مقابل المصالحة والمكاسب الاقتصادية التي يوفّرها التفاهم مع الروس، لكن هذا دونه عقبات كبيرة، بالإضافة إلى أن الثقة بأردوغان تبدو شبه مستحيلة، والتاريخ القريب يشير إلى هذه الاستحالة، ونذكر بعض الشواهد:
أولاً: تشير التقارير الواردة من حلب إلى تورّط تركي مباشر في تحشيد ودعم المقاتلين، علماً أن التجارب السابقة في الثقة بأردوغان أثبتت فشلها، فعلى سبيل المثال، بالتزامن مع تقديم أردوغان اعتذاره لبوتين، وبدء الحديث عن تطوُّر في الموقف التركي تجاه سوريا، هاجمت المجموعات المسلَّحة الموالية للأتراك منطقة كنسبا في شمال اللاذقية، كما قام الأتراك بتقديم أسلحة حديثة للمجموعات الإرهابية، وأهمها “جبهة النصرة”، التي حصلت على صواريخ مضادة للطائرات، ثم قامت شركات تركية خاصة بنقل دبابات وعربات مدرَّعة وتقديمها للمسلحين في حلب.
ثانياً: كما مع الروس، كذلك مع الأميركيين، فمقابل الوعود الكثيرة التي أعلنها أردوغان حول مشاركته في مكافحة الارهاب، من خلال التحالف الدولي الذي أنشأه الأميركيون، استمرّ الدعم التركي – المباشر وغير المباشر – للإرهابيين، من خلال السماح للمقاتلين بالعبور للالتحاق بـ”داعش”، وشراء النفط، بالإضافة إلى المشاركة في حصار عين العرب وغيرها.
“صبرَ” الأميركيون كثيراً على أردوغان ووعوده التي لم ينفّذ منها شيئاً، فاستعمال قاعدة انجرليك في عمليات التحالف ضد “داعش” أخذت الكثير من الشدّ والجذب، وحين قرر الأميركيون إنشاء “جيش سوري جديد” قوامه 5000 مقاتل لقتال “داعش”، قدّم لهم الأتراك بضع عشرات من المقاتلين، صرف الأميركيون على تدريبهم ما يقارب 500 مليون دولار أميركي، ولم يلبث هؤلاء أن بدّلوا ولاءاتهم وسلّموا أسلحتهم لـ”جبهة النصرة” بعد دخولهم الأراضي السورية للقتال.
وحتى قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، وتوتر العلاقة بين أردوغان والأميركيين، كان الرئيس التركي قد بدأ ممارسة “الابتزاز” مع الأميركيين، كما مارسها مع الأوروبيين في السابق، فخلال قمة “الناتو” الأخيرة، كان الأتراك يلعبون لعبة مزدوجة؛ استمرار تدفق المقاتلين والعتاد والسلاح إلى سوريا لإرضاء الأميركيين وتحويل الميدان السوري إلى مستنقع لاستنزاف الروس، وفي المقابل قطع الطريق على الأميركيين في محاولتهم “تطويق” الأسطول الروسي في شبه جزيرة القرم، برفض القبول بـ”وجود دائم” لقوات حلف الناتو في البحر الأسود.
بنتيجة قتال خمس سنوات، وبعد انهيار مشروع “الإخوان” لحكم العالم العربي، وبعد خيبات أمل كثيرة من حلفائه، وآخرها بعد محاولة الانقلاب، فهم أردوغان أن جعل تركيا رأس حربة في المشروع الأميركي، والقطيعة مع الآخرين، سيجعله يخسر حلم قيادة المشرق الذي لطالما حلم به، لذا ستكون الاستراتيجية التركية من الآن فصاعداً قائمة على محاولة لعب دور “الموازن” بين المحورَين المتواجهَين في المنطقة، بحيث يهرع كل طرف لإرضاء تركيا وإعطائها المزيد من المكاسب، لمنعها من الانخراط كلياً في المحور الآخر.
يقول المثل الشعبي اللبناني: “من جرَّب المجرَّب، كان عقله مخرّب”، فهل سيصدّق الإيرانيون والروس المزاعم الأردوغانية والدعوة إلى التفاهم والتقارب؟ وما الذي سيطلبه أردوغان من نائب الرئيس الأميركي الذي سيزوره نهاية شهر آب؟ الأكيد أن تركيا تملك الكثير من المفاتيح الإقليمية الاستراتيجية التي تجعلها قادرة على ابتزاز الجميع، لكنها تحتاج “بقوة” إلى تحالف موثوق يمنع نشوء “الكونتون” الكردي على حدودها مع سورية، فما الذي ستقدّمه للإيرانيين والروس مقابل ذلك؟ الأجوبة ملك الأشهر المقبلة.