مقالات مختارة

قمة بوتين ـ أردوغان بين الحقيقة والوهم: من سيغيّر من؟ محمد نور الدين

 

ذهب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى سان بطرسبورغ للقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين. القمة لا شك مهمة وتكتسب اهمية إضافية في ظل الظروف التي انعقدت فيها.

رغبة تركيا في التطبيع السريع كانت تبدو الأقوى. صحيفة «حرييت» كشفت عن بدء تركيا السعي لتطبيع العلاقات منذ نهاية آذار الماضي عبر البحث عن قناة ديبلوماسية موصلة إلى بوتين. وقد نجحت تركيا في ذلك مع إعلان بوتين في 27 حزيران عن انتهاء القطيعة وبدء مرحلة التطبيع.

تركيا تأذت كثيراً من القطيعة. انهيار قطاع سياحي بكامله. 98 في المئة من السياح الروس لم يقصدوا تركيا كما في كل عام. حجم الميزان التجاري مع روسيا تراجع بنسبة 35 في المئة. حركة تركيا في سوريا تقلصت بعد فرض حظر روسي على الطيران التركي فوق سوريا.

لكن لم تكن الرغبة الروسية في اللقاء تقلُّ عن الرغبة التركية. الرسالة التركية عن اعتذار وتعويض لم تكن مثالية من حيث الشكل. هناك طلب الصفح لا الاعتذار، ومساعدة لا تعويض، لأسرتي الطيارين الروسيين اللذين قتلا في حادثة إسقاط الطائرة.

مع ذلك، وجد بوتين رسالة أردوغان بأنها «مقبولة». روسيا تواجه وضعاً اقتصادياً سيئاً. تراجع سعر الروبل وتراجع أسعار النفط وعقوبات اقتصادية غربية اميركية ـ اوروبية بسبب الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن كلفة التدخل العسكري في سوريا.

الحاجة الاقتصادية المتبادلة كانت في أساس قمة سان بطرسبورغ. وقد أعلنها الزعيمان صراحةً من ان الهدف الأساسي من القمة العودة إلى ما كانت عليه العلاقات قبل إسقاط الطائرة الروسية.

بلوغ هذا الهدف ليس بالصعب، ولن تحول دونه خلافات حول سوريا وغيرها. فالبلدان كانا على أتم وفاق اقتصادي في ظل أعنف الغارات الروسية في سوريا، ورغم مرور شهرين على بدء التدخل الروسي في سوريا. كان البلدان قد نجحا في صوغ علاقات ثنائية شبيهة بالعلاقات التركية ـ الإيرانية لجهة فصل التعاون الاقتصادي والتواصل السياسي عن الخلافات السياسية. من هذه الزاوية، حققت قمة بوتين هدفها، وإن كان استكمال التطبيع سيأخذ بعض الوقت.

القمة كان مقرراً لها ان تنعقد في بكين مطلع شهر أيلول المقبل أثناء قمة العشرين. لكن محاولة الانقلاب العسكري في تركيا غيّرت جدول الأعمال. كانت المحاولة الفاشلة حافزاً لتقديم موعد اللقاء الذي اتخذ شكل زيارة لروسيا، وليس مجرد لقاء ثنائي في بلد ثالث.

تنديد بوتين كأول رئيس أجنبي بالانقلاب واتصاله بأردوغان كان له وقع كبير لدى أردوغان الذي لم يكتف باتهام فتح الله غولن بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية، بل باتهام الولايات المتحدة بأنها كانت شريكاً في الانقلاب، واتهام اوروبا بأنها دعمت الانقلابيين، وبأن أحداً من المسؤولين الغربيين لم يزر تركيا حتى الآن. الروس استغلوا الحدث التركي بأفضل طريقة ممكنة، وإيران لم تكن أقل من الروس مسارعة إلى تأييد الشرعية المنتخبة في تركيا والتنديد بالانقلاب، في حين ان الغرب ارتبك بأسوأ ما يكون عليه الارتباك.

تقديم موعد اللقاء وتقّصُد أردوغان ان تكون زيارته الأولى الخارجية بعد الإنقلاب إلى العدو التاريخي للغرب، أي إلى روسيا، كله له حسابات.

لا يضير تركيا كثيراً ان تدخل في سجالات وخلافات، بل حتى مناوشات، مع الاتحاد الأوروبي، فهذا بات من طبيعة العلاقات التركية ـ الأوروبية. لكن اتهام انقرة لواشنطن انها متورطة في الانقلاب العسكري هو امر خطير ويضيف تعقيداً كبيراً إلى العلاقات التركية ـ الأميركية. فهذا الاتهام من الأمور التي لا تمر ببساطة. وأن يبتلع أردوغان محاولة انقلاب كانت تهدف إلى تصفيته وتصفية نظامه فمسألة صعبة جداً ولا يمكن تجاوزها بهذه السهولة. لذا يتوقع ان تشهد العلاقات الثنائية مرحلة من انعدام الثقة والتوتر العالي قد تستمر إلى نهاية عهد باراك اوباما وربما أبعد، في انتظار ما ستكون عليه السياسة الخارجية للرئيس الأميركي المقبل. وهنا سيكون لموقف واشنطن من طلب انقرة تسليمها فتح الله غولن المقيم في بنسيلفانيا دور حاسم في بلورة مستقبل العلاقات بين البلدين. وسيكون صعباً جداً على واشنطن تسليم غولن، لأن التسليم سيظهر أردوغان بطلاً قومياً استطاع ان يركّع اميركا، وسيكون لذلك انعكاسات سلبية على علاقات الولايات المتحدة مع أصدقائها وحلفائها رغم النظرة الشائعة بانها براغماتية ويمكن لها التخلي بسهولة عن رؤساء وملوك، فكيف عن مجرد رجل دين مقيم في كنفها وحمايتها؟. كذلك، فإن تسليم غولن سيؤبد سلطة أردوغان في انقرة لأنه سيكون هذه المرة سلطاناً فاتحاً للولايات المتحدة ويجعل من التخلص منه مهمة مستحيلة.

عندما ذهب أردوغان إلى سان بطرسبورغ، كان في ذهنه الى جانب الاقتصاد، كيفية تحشيد أكبر كمّ ممكن من اوراق الضغط لتوظيفها في بلورة المرحلة الجديدة من العلاقات مع أميركا.

تدرك تركيا ان علاقاتها مع الغرب ليست مجرد مصالح سياسية او اقتصادية مؤقتة او مرتبطة بظروف اقليمية ودولية. مقاربة الموقف التركي من التقارب مع روسيا ومن الكلام على تغيير محتمل في بوصلة تركيا يستدعي النظرة إلى موقع تركيا الجغرافي والاستراتيجي، ذلك ان التموضع الاستراتيجي والحضاري لأي بلد وتحديد المخاطر والتهديدات الاستراتيجية التي تحيط به يأتي عبر تجارب تاريخية تمتد لعقود وربما لقرون. تشكيل الصورة الصديقة او العدوة لمجتمع أمرٌ في غاية التعقيد. من هنا، فإن تحديد تركيا لأعدائها وللجهات التي تأتي منها التهديدات الاستراتيجية وليست الآنية، تجعل من روسيا وإيران والعرب والأرمن واليونان والأكراد، من بين مصادر التهديدات الاستراتيجية مما هو تاريخي أو مما هو حضاري.

تركيا، وخصوصاً منذ عهد اتاتورك، كانت جزءاً من المحور السياسي والأمني الغربي والخيار الحضاري الغربي. وتمأسس هذا الخيار بعد الحرب العالمية الثانية، بحيث أصبحت تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي وفي المجلس الأوروبي وجزءاً من مسار العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الاطار الاستراتيجي، تدخل العلاقة التركية مع اسرائيل عندما اعترفت بها العام 1949 ضد الشيوعية وضد العرب (كردٍّ على «خيانتهم» لها في الحرب العالمية الأولى وفقاً لجانب من النخبة التركية في العام 1949). وليس أدلّ على استراتيجية هذه العلاقة مع اسرائيل مثلاً ان أردوغان جددها في 26 حزيران الماضي رغم أن ميوله الاسلامية تفرض عليه وتفترض اتخاذ خيارات أقل ارتباطاً بإسرائيل، ولكنه لم يفعل لأن عداوة تركيا للعرب من منطلقات قومية، وتحميلهم مسؤولية انهيار الدولة العثمانية، تفرض عليه وللأسف التعاون مع كل عدو ممكن للعرب، وفي مقدمهم إسرائيل.

خيارات تركيا السياسية والحضارية والأمنية هي التي وفرت لها بعض المكتسبات الديموقراطية والتشريعية التي لن تجدها في منظمة شنغهاي ولا في بكين. وهذا الخيار هو الذي صدّ ويصدّ عنها مخاطر المسألة الأرمنية واليونانية والكردية (في تركيا) والروسية والسورية في ضوء حاجة الغرب لتركيا في صراعه السابق مع الشيوعية، والآن مع روسيا وإيران.

وبالتالي، فإن حدوث انعطافة تركية جذرية معادية للغرب واميركا لصالح العلاقة مع روسيا و «منظمة شنغهاي» غير محتمل لأنه يتطلب قراراً استراتيجياً تركياً كبيراً، له مخاطره الجمة، على غرار قرار الثورة الاسلامية في إيران عند حدوثها بالابتعاد عن الغرب لصالح القرار الإيراني المستقل. ومن مجمل مسيرة أردوغان وتياره الاسلامي وتركيا عموماً، فإن مثل هذا القرار غير وارد أصلاً.

أما بالنسبة للموقف التركي من سوريا، فليس واضحاً بعد ما سيكون عليه بعد قمة سان بطرسبورغ.

لكن نشير هنا إلى بعض النقاط:

1 ـ إن المشروع العثماني التوسعي لتركيا في المنطقة بدأ في سوريا أساساً، وامتد لاحقاً إلى مصر. ولو انه نجح في سوريا، لكانت صورة المنطقة غير ما هي عليه الآن. وعلى امتداد مراحل الحرب في سوريا، كانت رهانات أن تغير تركيا بعض مواقفها. لكن في كل مرة، وبعد ان تقلع طائرة أردوغان، من طهران مثلاً، وتصبح على ارتفاع متر واحد فقط عن الأرض الإيرانية عائدة إلى تركيا، كان أردوغان يبدد الموجات التفاؤلية ويعود أكثر عدوانية على سوريا.

2 ـ لأن المشروع الأردوغاني بدأ في سوريا، فإن أي استدارة تركية الآن تعني نعي هذا المشروع، وبالتالي اعتراف أردوغان بفشل مشروعه. فهل يقرّ أردوغان المكابر والعنيد بهذا الفشل؟ من سجله السابق، هذا الاحتمال مستبعد. تغيير الموقف التركي ليس قراراً تركياً طوعياً، بل هو تغيير توازنات على الأرض تُفرض على تركيا فرضاً. واليوم المتغيرات الميدانية فقط هي التي تفرض على تركيا تغيير سياساتها. وخلا ذلك، فليس من المتوقع أي تغيير في الموقف التركي رغم كل الاجتماعات الأمنية التي يعقدها الروس مع الأتراك.

3 ـ إن الحرب في سوريا حرب كونية بين فسطاطين: محور الغرب ـ تركيا ـ الخليج، ومحور سوريا ـ ايران ـ روسيا ـ المقاومة. وقرار المحور الأول في النهاية تحت المظلة الأميركية. يمكن للآخرين فيه التحرك ضمن بعض الهوامش، لكن ان يتخذ قرار استراتيجي مؤثر في الحرب السورية من جانب تركيا مثلاً من دون واشنطن، فهذا مناف لأبسط قواعد التحليل المنطقي. وفي ظل الظروف الحالية، ليس من مؤشر على ان تركيا قادرة، هذا إذا كانت تريد، على أن تحدث تغييراً في موقعها من الحرب السورية. ومعارك حلب الأخيرة اظهرت أن تركيا لم تغير موقعها من دعم المعارضة المسلحة التي لا تزال تستمد مقومات بقائها من إبقاء تركيا حدودها مفتوحة للإرهابيين. ولم يتردد أردوغان قبل ايام من إعلان سعادته عن إعادة المعارضة المسلحة التوازن إلى حلب بعد تقدمها في محور الراموسة.

4 ـ التفاهمات التركية ـ الروسية المعلنة تبرئ صفحة تركيا من دعم «داعش» بالإعلان انها ستشارك مع روسيا بغارات على التنظيم المتطرف، بل ايضاً هذا سيفتح من جديد المجال الجوي السوري أمام المقاتلات التركية وبتغطية روسية؟ فهل هذا الرهان الروسي في مكانه، وموسكو تعرف علاقة تركيا العضوية بـ «داعش»؟ وهل هذا مكسب لسوريا ان ترى من جديد المقاتلات العثمانية تحلق فوق سماءٍ سورية؟ اكثر من ذلك، فإن تصريحات وتعليقات مسؤولين وكتّاب أتراك خلال وبعد قمة سان بطرسبورغ، تراهن على أن مرونة تركيا يمكن ان تكون في مشاركة النظام السوري، من دون الإشارة صراحة إلى الرئيس بشار الأسد، في مرحلة انتقالية توصل في النهاية إلى الهدف التركي الأساسي، وهو إخراج الأسد من الحكم، فيعتبر أردوغان حينها انه بلغ هدفه، وحقق انتصاره بالديبلوماسية، بعدما عجز عن ذلك بالوسائل العسكرية، وأن انقرة تعتقد ان روسيا ليست بعيدة عن هذا التصور وبالتالي رهان تركيا لتحقيق هدفها الاستراتيجي، هو على إقناع موسكو بهذا التصور وليس العكس.

ما بين الحقيقة والوهم انعقدت قمة بوتين ـ أردوغان. والأيام المقبلة سترسم الحد الفاصل بينهما.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى